يورد المؤرخ ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة: 1798-1939” رواية تفيد بأن حاكم مصر في القرن التاسع عشر، محمد علي باشا، قال لوزيره الذي كان قد بدأ في ترجمة جزء من أعمال مكيافيلي – على الأرجح كتاب “الأمير” – إنه لم يعثر “على أي شيء جديد يذكر” في تلك الصفحات. “إني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيلي ما يمكنني أن أتعلمه منه. فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف…فلا داعي للاستمرار في ترجمته”.
ربما كان محمد علي محقا في اعتباره أن مكيافيلي، الذي يوافق الثالث من مايو/أيار ذكرى مرور 555 عاما على ميلاده، لم يأت بجديد فيما يتعلق بحيل الحكم ومكر بعض الحكام ودهائهم واتباعهم مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، فهي أشياء معروفة وتمارَس منذ قديم الزمان. ولكن الكتاب أحدث ضجة كبيرة منذ صدوره، وأصبح محل العديد والعديد من المناقشات والدراسات، واختلفت الآراء في تأويله، بل تحول مؤلفه إلى نعت يوصف به الانتهازيون والوصوليون.
فهل كان مكيافيلي بالفعل يدعو إلى “المكيافيلية”؟ وهل ظلم باختصار أعماله في عبارة “الغاية تبرر الوسيلة”؟ وكيف أثرت مؤلفاته على الفكر السياسي في الغرب وما وراءه؟
“الأمير”
اعتبر كثيرون كتاب مكيافيلي الأشهر “الأمير” رسالة في علم السياسة، ودليلا للحكام الجدد يرشدهم إلى كيفية انتزاع السلطة والحفاظ عليها. يستشهد مكيافيلي في كتابه بأمثلة من التاريخ وأمثلة معاصرة له، ويتحدث عن تجاربه كـ”وزير خارجية” فلورنسا.
يتناول الكتاب الصفات التي يجب أن يتحلى بها الحاكم، والطرق والوسائل التي يمكن أن يلجأ إليها لاستغلال المواطنين والبقاء في الحكم، والانتصار على الأعداء، كما يتطرق إلى مفاهيم الحرب والسلام وأهمية وحدة البلاد، وينتقد الكنيسة.
يرى مكيافيلي أن الأمير الجديد الذي يعتمد على خوف مواطنيه من العقاب سوف يحقق نجاحا، ولكن الأمير الذي يتوقع أن يواصل رعيته الوفاء بتعهدهم بحبه ومساندته سوف يصاب بخيبة أمل، لأنهم عادة ما يكونون “مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجله عندم يكون الموت بعيدا عنهم”، ولكن عندما يكون الأمير بحاجة إليهم، فإنهم غالبا ما ينقضون ذلك العهد.
قراءات مختلفة عبر خمسة قرون
لم ينشر “الأمير” إلا بعد وفاة مؤلفه بخمس سنوات، في عام 1532. وسرعان ما أثار مخاوف الكنيسة الكاثوليكية والكثير من السلطات السياسية. وأدرجت الكنيسة كافة أعمال مكيافيلي، بما فيها “الأمير” ضمن قائمة الكتب المحظورة التي أصدرتها في عام 1559. وكان مكيافيلي من أكثر الكتاب الذين تعرضوا للإدانة.
وفقا للدكتورة إريكا بِنر، وهي مؤرخة وأكاديمية متخصصة في الفلسفة السياسية ولها العديد من الأبحاث والكتب التي تتناول مكيافيلي – من بينها كتاب Machiavelli’s Prince: A New Reading (“الأمير لمكيافيلي: قراءة جديدة”)، كان هناك انقسام حاد بين القراء الأوائل للـ “الأمير”.
“هؤلاء الموالون للسلطة البابوية والملوك الكاثوليك كانوا أول من أدانوا الكتاب واعتبروه دليلا إلحاديا للطغاة. بل إن الكاردينال الإنجليزي ريجينالد بول زعم أنه يهاجم أسس الحضارة ذاتها، [وأنه “كُتب بيد الشيطان”]. أما القراء الجمهوريون والمناهضون للسلطة البابوية فكانوا يرون عكس ذلك تماما – أنه خلف قناع تحطيم القيم الأخلاقية، الغرض الأساسي للكتاب هو الدفاع بشكل مبطن عن العدالة والفضيلة ضد ممارسات البابوات والملوك الفاسدين الذين كانوا الأعداء الحقيقيين للقيم الإنسانية الحميدة”.
ويقول الدكتور ألكسندر لي المتخصص في تاريخ عصر النهضة الإيطالية بجامعة واريك ومؤلف كتاب Machiavelli: His Life and Times (حياة مكيافيلي وعصره)، إنه من السهل أن نفهم سبب الانتقادات اللاذعة التي وجهها القراء الأوائل للكتاب لأن “مكيافيلي يعمد فيه إلى رفض مذاهب الفكر السياسي السابقة، والتي كانت بشكل عام ترى أن أفضل وسيلة يستطيع من خلالها الأمراء الحفاظ على الحكم هي اتباع القيم المسيحية. أما مكيافيلي فاعتبر أن ذلك ليس فقط غير واقعي، ولكنه خطر…ما يحتاج إليه الحاكم، من وجهة نظره، هو أن يكون شجاعا وجريئا ومجازفا ومقداما، وأن يكون مستعدا لفعل أي شيء للحفاظ على منصبه حتى ولو اضطر إلى أن يكون قاسيا ومخادعا وبخيلا”.
كتب الفيلسوف الهولندي بنيديكت سبينوزا في القرن السابع عشر أن الغرض من كتابة مكيافيلي بالتفصيل عن الوسائل التي يستخدمها أمير يحركه دافع وحيد هو رغبته في الحصول على سلطات استبدادية، هو تحذير الناس من مغبة تسليم أقدارهم لمثل هؤلاء.
كان الفيلسوف السويسري الشهير جان جاك روسو الذي تأثر به زعماء الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر من أشد المعجبين بأفكار مكيافيلي بشأن الحكم الجمهوري والحرية السياسية، وأن المسيحية لا تصلح كديانة للنظام الجمهوري لأنها لا تعلم المواطنين القيم اللازمة لخدمة الدولة، كالشجاعة والوطنية والرجولة. ووصف روسو أسلوب “الأمير” بأنه ساخر.
وتضيف: “لكن خلال الحروب النابوليونية [في القرن التاسع عشر]، طغت التفسيرات الواقعية غير الأخلاقية لمكيافيلي على ما عداها. واستشهد فلاسفة ألمان مثل فيشته وهيغل به باعتباره من أنصار الوحدة الوطنية، حتى ولو تحققت بالحديد والنار..ومنذ ذلك الحين، كل من قرأ مكيافيلي تقريبا فعل ذلك من منظور الغاية تبرر الوسائل غير الأخلاقية”.
قراءات حديثة للأمير: محاولة لتملق الحكام أم عمل ساخر؟
ألف مكيافيلي “الأمير” بعد نفيه من قبل الحكام الجدد، وأرسل إليهم العديد من الخطابات التي يتوسل إليهم فيها كي يعيدوه إلى وطنه.
يرى مؤرخون أن “الأمير” كان يهدف إلى استعطاف آل مديتشي كي يعيدوا مكيافيلي إلى منصبه القديم. ويقول دكتور لي إن ثمة دليلا قويا على ذلك، نظرا لظروف سجنه ثم نفيه وكونه عاطلا عن العمل في ذلك الوقت.
“كان يبدو منطقيا أن يحاول كتابة عمل يثبت لآل مديتشي أنه من الممكن أن يكون مستشارا جيدا لهم. وفي “الأمير”، يشدد مكيافيلي على أهمية أن يحيط الحاكم نفسه بمستشارين وناصحين جيدين – وعلى الأرجح أن ذلك كان تلميحا إلى شخصه”.
ويضيف أن مكيافيلي نجح في التقرب إلى آل مديتشي، حيث تولى بعض المهام الدبلوماسية واقترح بعض الإصلاحات الدستورية، “بل وكُلف بكتابة التاريخ الفلورنسي (Florentine Histories)، وهو واحد من أهم كتبه”.
“ومن ثم، فإنه رغم أن بعض الباحثين اعتبروا “الأمير” كتابا ساخرا، أو حتى محاولة مستترة لتقويض نظام آل مديتشي، أعتقد أن هناك حججا أقوى لتفسيره كمحض محاولة للتودد إلى آل مديتشي من خلال تقديم نصيحة عملية لهم”.
لكن للدكتورة بِنر رأيا مختلفا، إذ تعتبر أن غرض مكيافيلي كان التحذير من الحكام ورجال الدين الفاسدين.
تلفت بِنر إلى أن العديد من المبادئ القديمة كانت تعتبر أنه “من واجب الرجال الصالحين مساعدة مدنهم من خلال التقرب إلى الحكام – لا سيما الحكام غير العادلين والمستبدين – وفعل كل ما بوسعهم من أجل تغيير سلوكهم إلى الأفضل”.
تقول بِنر إنها في بادئ الأمر كانت تقرأ مكيافيلي وتُدرّس كتاباته بنفس الطريقة المعتادة، وتسلط الضوء على العبارات “المكيافيلية”، ولكنها مع مرور الوقت اكتشفت أن هناك الكثير من الأشياء غير المتسقة في الرسائل التي يحتويها الكتاب، وأن التبريرات التي يقدمها لأفكاره التي كانت مثارا للجدل عادة ما تبدو “غير منطقية ومشوشة وسطحية. أحيانا يبدو وكأنه يقدم محاكاة ساخرة للخدع البلاغية الرخيصة. ولكنه في الوقت ذاته يقدم حججا وبراهين أقوى بكثير عندما يتحدث عن أهمية العدل مع الأصدقاء والأعداء ومساندة الحلفاء في السراء والضراء، وتغليب حكم القانون على رغبات البشر”.
وتضيف أن الأمثلة التي يعطيها من التاريخ القديم والمعاصر تدلل على ذلك. “أحيانا ما يكيل عبارات الثناء على الدول أو الزعماء الذين ينتهجون نهجا غير أخلاقي، لكن إذا أمعنت النظر في سرده لأفعال معينة اقترفها هؤلاء، تستطيع أن تستشف أنهم يسيرون باتجاه كارثة سياسية محققة”.
الأمير وتأثيرات دامت لقرون
يقول الدكتور لي إن مكيافيلي “أسس لطريقة جديدة في الفكر فيما يتعلق بالسلطة. ومنذ طباعة الأمير، كان من الصعب على أصحاب النظريات السياسية تفادي مناقشة أطروحاته، سواء بالإيجاب أو بالسلب. سبينوزا، وروسو وهيوم وآدام سميث وهيغيل وماركس وغرامشي، وغيرهم كثيرون، اعترفوا جميعا بتأثيره. كما وجد الزعماء السياسيون في الأمير مستودع أفكار، يعجبون بها أو يحتقرونها..نابوليون على سبيل المثال كتب تعليقا على الكتاب، كما درسه ستالين بعناية. ومؤخرا، ذكر رئيس وزراء سنغافورة السابق لي كوان يو في أكثر من مرة أن الأمير كان مصدر إلهام له”.
ويضيف أنه يمكن أن نرى بوضوح تأثير الأمير على فهمنا للسياسة من خلال السهولة التي نستخدم بها كلمة “مكيافيلي” في الوقت الحالي: “حينما يرغب الصحفيون في الثناء على سياسي لتمتعه بالدهاء وحسن التقدير والحزم، أو هجائه لأنه قاس ولا أخلاقي، فإنهم عادة ما يصفونه بأنه مكيافيلي. يدلل ذلك على أن سمعة “الأمير” التي يحسد عليها لا تزال تشكل مخيلتنا السياسية رغم مرور خمسة قرون”.
هل لا يزال مكيافيلي مهما؟
في وقت يتم فيه الحديث عن تراجع القيم الديمقراطية الليبرالية في الغرب وغيره من أنحاء العالم، ويُنتَقد فيه الزعماء لتشبثهم بالسلطة ولجوئهم إلى الحيل والكذب من أجل البقاء في مناصبهم، تبرز أهمية “الأمير”.
تقول الدكتورة بِنر إن مكيافيلي كان يحذر الناس من مغبة عدم الدفاع عن أنفسهم ضد استغلال الحكام لهم، لأنهم إن لم يفعلوا، فسوف يجدون أنفسهم تحت نير حاكم مطلق ويفقدون حريتهم.