في وقت تتهيأ فيه للانصراف يطرح قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن السماح لأوكرانيا بضرب العمق الروسي باستخدام صواريخ “أتاكمز” بعد طول تردد تساؤلات عدة عن غايات القرار وتداعياته، في وقت لن يغير ذلك عمليا الوضع على الجبهات بقدر ما قد يوصل العالم إلى الحافة النووية.
وسارعت أوكرانيا من جهتها إلى استخدام تلك الصواريخ بعيدة المدى لضرب مستودع ذخيرة في منطقة بريانسك في جنوب غرب روسيا وفق الرواية الروسية، إذ أكدت موسكو إسقاط 5 من الصواريخ باستعمال منظومة “إس 400” المتطورة.
من جانبه، أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسرعة تحديثا في “أسس سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي” (العقيدة النووية) بهدف تحسين سياسة الدولة الروسية في مجال الردع النووي، وبما يسمح لها أيضا باستخدام أسلحة نووية ضد دولة لا تملك هذا النوع من السلاح إذا كانت مدعومة من قوى نووية، وفق التنقيح الجديد.
ففي وقت خسرت فيه الإدارة الديمقراطية الانتخابات الرئاسية والتشريعية أيضا وهي تستعد لمغادرة البيت الأبيض والكونغرس (فقدت الأغلبية الطفيفة) لن يخدمها قرار التصعيد بأي شكل حاضرا أو مستقبلا، وفق المحللين، كما يستبعد أن يخدم الجهود العسكرية الأوكرانية بشكل فعال أو يغير الواقع على الأرض بشكل حاسم.
كما وافق الرئيس بايدن أيضا على تزويد أوكرانيا بالألغام الأرضية المضادة للأفراد، المحظورة في في أكثر من 160 دولة، في محاولة لإسناد القوات الأوكرانية، التي فقدت في الأشهر الأخيرة مساحات بأسرع معدل منذ بداية الحرب عام 2022.
تصعيد قبل المغادرة
يشير خبراء ومحللون عسكريون إلى أن الإدارة الديمقراطية الأميركية برئاسة جو بايدن (إدارة البطة العرجاء) تلعب لعبة خطيرة في اللحظات الأخيرة بالسماح للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي باستعمال تلك الصواريخ الأميركية لضرب العمق الروسي، وهي تعلم أنها لن تغير عمليا الوضع على الجبهات، وإن كانت ستكسب أوكرانيا بعض الوقت.
ويوجد نحو 245 هدفا عسكريا معروفا في روسيا، قد تكون ضمن نطاق صواريخ أتاكمز (305 كيلومترات) وفق تقرير سابق لمعهد دراسة الحرب، تشمل 16 قاعدة جوية روسية، فيما قامت روسيا بنقل معظم أسلحتها المتطورة خارج نطاق تلك صواريخ.
وبحسب صحيفة واشنطن بوست الأميركية، جاء قرار بايدن في هذا التوقيت -بعد طول تردد رغم الإلحاح الأوكراني- ردا على نشر قوات كورية شمالية تقاتل حاليا في جبهة كورسك، والتي يقدر عددها بنحو 12 ألف جندي وفق التقارير الأميركية، لكنه أيضا يتخذ بعدا أشمل يتعلق بالمتغيرات السياسية في الولايات المتحدة نفسها.
ويعتقد محللون أن القرار الأميركي رغم محدودية تأثيره العسكري، يهدف إلى تكثيف الضغوط على الرئيس بوتين في أي مفاوضات مقبلة، ولكن أيضا على الرئيس المرتقب دونالد ترامب الذي يتوقع على نطاق واسع -بناء على تصريحاته- أنه سيسعى على تحجيم المساعدات الأميركية لأوكرانيا والعمل على إنضاج حل سياسي يرجح أنه سيكون على حساب كييف.
وكان الرئيس الأوكراني زيلينسكي قد حذر من أن بلاده “ستُهزم” أمام الجيش الروسي إذا ما قطعت عنها واشنطن التمويلات والمساعدات العسكرية.
ولطالما انتقد ترامب إنفاق إدارة الرئيس جو بايدن عشرات مليارات الدولارات لدعم أوكرانيا منذ بداية التدخل الروسي في 24 فبراير/شباط 2022، متعهدا بحل النزاع “خلال 24 ساعة”، دون أن يحدد الطريقة، التي بقيت محل تخمين وتحليلات.
ويخشى زيلينسكي وحلفاؤه الأوروبيون أن تؤدي سياسات ترامب في الملف الأوكراني إلى نسف نحو 3 سنوات من الجهود العسكرية، إذ بلغت المساعدات الأميركية لأوكرانيا نحو 183 مليار دولار حسب تقرير صادر عن المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية، في حين بلغت المساعدات الغربية مجتمعة نحو 75 مليار دولارإضافة إلى تمويلات بقيمة 50 مليار يورو للفترة بين 2024 و2027 كان زعماء الاتحاد الأوروبي قد وافقوا عليها في فبراير/شباط 2024 .
وتسعى إدارة بايدن من وراء قرارها الجديد إلى مواصلة استنزاف روسيا بعد أن فشلت في احتوائها، وإلى خلق واقع ميداني وسياسي جديد تورثه لإدارة ترامب الجمهورية، ويمكن تلخيص أهم الأهداف الأخرى بما يلي:
- الرد القوي على إرسال كوريا الشمالية قوات إلى روسيا، وثنيها عن إرسال المزيد.
- ضمان استمرار الثغرة الأوكرانية في منطقة كورسك بهدف الحفاظ على موقف كييف العسكري والسياسي أو تحسينه إلى حين تولي إدارة ترامب السلطة، فهزيمة أوكرانيا في كورسك مع التقدم الروسي الواضح في شرقي أوكرانيا سيعني موقفا ضعيفا لكييف في أي مفاوضات مقبلة.
- الضغط على إدارة ترامب القادمة لمواصلة الجهود العسكرية لمصلحة أوكرانيا أو لاتخاذ موقف أكثر توازنا.
- تكثيف الضغوط العسكرية على روسيا التي تحقق نجاحات عسكرية في الفترة الأخيرة بنقل الحرب إلى عمقها.
- منح أوكرانيا مزيدا من الوقت لتحقيق توازن على الجبهات تحضيرا لأي عملية تفاوض.
- وضع عراقيل أمام أي تقارب محتمل بين ترامب وبوتين مستقبلا على حساب أوكرانيا أو حلف شمال الأطلسي عبر تسخين الجبهات.
- إبقاء زخم المساعدات الأوروبية لأوكرانيا وتحفيز الدول الأخرى، خصوصا في الناتو على مد أوكرانيا بأسلحة مشابهة أو أكثر تطورا.
على الحافة النووية
اتخذ الرئيس الأميركي جو بايدن قرار التصعيد رغم خطورته، وهو يدرك أن بلاده تعتبر حجر الرحى إطالة زخم الحرب على روسيا واستنزافها في ضوء صعوبة تحقيق هدف إلحاق “الهزيمة الإستراتيجية” بها.
كما يدرك أيضا أن روسيا -التي لطالما لوحت بالردع النووي خلال مجريات الحرب الحالية- يصعب عليها بحقائق القوة المرور إليه كخيار عسكري، حتى مع تكثيف الولايات المتحدة وحلف الناتو المساعدات العسكرية لأوكرانيا لضرب العمق الروسي.
وكانت روسيا قد أعلنت فعلا عن خطوط حمراء تلجأ فيها إلى تفعيل الخيار النووي أكثر من مرة، من بينها التهديد المباشر للأراضي الروسية باستعمال أسلحة غربية، وقد اعتبر الهجوم على كورسك أحد هذه الخطوط الحمراء، دون أن تفعّل الخيار النووي.
وفي سبتمبر/أيلول قال الرئيس بوتين إن الموافقة الغربية على استعمال أسلحة بعيدة المدى تضرب العمق الروسي “ستعني ضلوع دول حلف شمال الأطلسي مباشرة في الحرب بأوكرانيا”.
واستخدمت أوكرانيا فعليا خلال الحرب صواريخ “ستورم شادو” البريطانية وصواريخ و”هيمارس” ثم “أتاكمز” الأميركية وطائرات مسيرة تتضمن مكونات غربية لضرب أهداف في عمق الأراضي الروسية، إضافة إلى طائرات “إف-16” ودبابات “تشالنجر” البريطانية و”أبرامز” الأميركية و”ليوبارد” الألمانية، كما تلقت معلومات استخباراتية وصور أقمار صناعية للجبهات.
ورغم التغيير الجديد في العقيدة النووية الروسية ردا على السماح باستعمال صواريخ أتاكمز يبقى السلاح النووي بالنسبة لروسيا أداة للردع والتهديد ما لم تتعرض لهزيمة قاسية أو خطر يهدد وحدتها الترابية، وما لم تؤد الضربات الأوكرانية المفترضة على العمق الروسي إلى خسائر كبيرة وغير محتملة.
ولا يعد تعديل موسكو عقيدتها النووية رسالة للإدارة الأميركية المتخلية وحلفائها الأوروبيين فقط، بل هي موجهة كذلك للإدارة القادمة، إذ ستمثل أداة ضغط على الرئيس المقبل دونالد ترامب للتخلي عن السياسات الديمقراطية بملف أوكرانيا نهائيا، والمضي قدما في مخططاته التي تحدث عنها لإنهاء الحرب التي تخدم نظريا الجانب الروسي.
ومنذ بداية الحرب في أوكرانيا لوحت روسيا بتعديل عقيدتها النووية التي تقوم أساسا على ردع أي عدوان محتمل، وضمان إدراك العدو حتمية الانتقام في حالة العدوان على روسيا، وبما يضمن وقف الأعمال العدائية بشروط مقبولة لروسيا، وفق بنودها.
ومن أسس العقيدة النووية الروسية أيضا الإبقاء على حالة عدم اليقين بالنسبة للخصم المحتمل فيما يتعلق بحجم ومكان استخدام الأسلحة النووية، والحفاظ على الجاهزية الدائمة لجزء قوات الردع النووي المخصص للاستخدام، بالإضافة إلى مركزية السيطرة على القوات النووية، بما فيها تلك الموجودة خارج الأراضي الروسية، وهي تحتكم أيضا إلى المبادئ التالية:
- العدوان على روسيا وحلفائها من قبل دولة غير نووية وبدعم من دولة نووية سيعتبر هجوما مشتركا.
- يمكن لروسيا استخدام الأسلحة النووية في حالة وجود تهديد خطير للسيادة وسلامة الأراضي لها ولبيلاروسيا.
- نشر أنظمة الدفاع الصاروخي في الفضاء من قبل العدو يشكل خطرا يستخدم الردع النووي لتحييده.
- يمكن استخدام الأسلحة النووية عند إطلاق الصواريخ الباليستية على روسيا.
- يتم استخدام السلاح النووي للرد إذا تعرضت مواقع حكومية أو عسكرية حساسة إلى هجوم من قبل عدو.
- يعد توفير الأراضي والموارد للعدوان على روسيا سببا لاستخدام الردع النووي ضد مثل هذه الدولة.
- إذا تعرضت روسيا أو أحد حلفائها لهجوم بأي نوع من أنواع الأسلحة غير التقليدية (النووية والكيميائية والبيولوجية).
- يعتبر عدوان أي دولة من التحالف العسكري ضد روسيا أو حلفائها عدوانا من قبل هذا التحالف ككل.
- تحتفظ روسيا بالحق في استخدام الأسلحة النووية ردا على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدها أو ضد حلفائها.
- تمارس روسيا الردع النووي ضد الخصم المحتمل، وهو مفهوم يشمل الدول والكتل والتحالفات التي تعتبر روسيا خصما.
- تهدف سياسة الدولة بشأن الردع النووي إلى الحفاظ على إمكانيات القوات النووية عند مستوى كاف للردع النووي.
- يضمن الردع النووي من خلال وجود قوات ووسائل في القوات المسلحة الروسية قادرة على إلحاق أضرار غير مقبولة بالعدو باستخدام الأسلحة النووية.
وتعد روسيا الدولة النووية الأقوى في العالم، وقد ورثت عن الاتحاد السوفياتي ترسانة نووية هي الأضخم والأقوى في العالم، والتي تقدر حاليا بنحو 5580 رأسا نوويا، كما تمتلك ثالوثا نوويا رهيبا (أدوات إطلاق الصواريخ النووية برا وبحرا وجوا من المخزون النووي الإستراتيجي).
ومن الملاحظ أن الكثير من الأسباب التي تتيح استعمال النووي قد توفرت عمليا في الحرب الجارية، خصوصا أن موسكو تعتبر الأراضي التي ضمتها شرقي أوكرانيا تابعة لها، لكنها تمارس دائما سياسة ضبط النفس بخصوص اللجوء إلى النووي.
وتبعا لذلك، يرى محللون أن التهديد الروسي المتكرر بالردع النووي بات مجرد “ابتزاز نووي”، ولم تأخذه الولايات المتحدة وحلفاؤها على محمل الجد، لذلك تتكثف الضغوط العسكرية عليها.
ومن المستبعد أن تلجأ روسيا إلى الخيار النووي، لكن الضربات الأوكرانية بالسلاح الأميركي “ستعطي بوتين حجة لا يمكن إنكارها لصالح اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد أوكرانيا قد تحرم الأخيرة من الطاقة بالكامل، وتغرق البلاد في كارثة اقتصادية واجتماعية”، حسب الكاتب والمفكر الروسي ألكسندر نازاروف.
وتدرك روسيا ضرورة عدم التصعيد بالنووي، وترك مساحة للرئيس الأميركي المقبل دونالد ترامب الذي تفترض أنه سيكون أكثر إدراكا لاحتياجاتها الأمنية، بما قد يفتح نوافذ للحوار بشأن الحرب في أوكرانيا وغيرها من الملفات، وهو ما سيُبقي الخيار النووي دائما في إطار الردع.