من عادل إمام إلى القطة اللئيمة: كيف غزت الميمز الإنترنت وقلوبَنا؟

كيف نتكلّم/ نكتب عن الميمز؟ إن هذه المهمّة ليست بالأمر السهل، لا سيما أن الميمز وُجدت لتعبّر عن أمرٍ معيّن لا يمكن للغة وحدها أن تعبّر عنه بشكل مباشر.

نصنع الميم كي لا نتكلم بالطريقة العادية، كي نقفز فوق الكلام. تحاول الإشارات التي تتضمنها الميمز، بواسطة الترميز والتكثيف والتناص، سدّ ثغرة معيّنة في اللغة أمام حدث أو موقف أو حالة ما. تصنع معنىً مضغوطاً في كبسولة ثم تتفشّى بين مستخدمي الانترنت الذين يتماهون معها، أو يجدون فيها صدىً لأفكارهم أو مشاعرهم.

منذ أن تحوّلت الميمز الرقمية إلى موضوع للتفكير والدراسة، منذ حوالي عقدين، أصبح معروفاً أن اسمها مشتق في الأساس من الكلمة اليونانية mimema، والتي تعني “شيئاً مقلداً”.

صيغ هذا الاسم للمرة الأولى في عام 1976 من قبل عالم الأحياء البريطاني ريتشارد دوكينز في كتابه “الجين الأناني”، حيث طرح كلمة “ميم” كوحدة أوّلية للانتقال الثقافي، إما من شخص أو مجموعة من الأشخاص إلى آخر.

ومع ظهور منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت الميمز أكثر تنوعاً وقدرة على الانتشار السريع. ويمكن القول إن صناعة الميمز ومشاركتها أصبحت نمطاً من أنماط الوجود المعاصر، حيث أن طريقة التعبير هذه، وتحويل الأحداث والمواقف والمشاعر والأفكار إلى ميم، لم تعد تنحصر فقط في المنصات الرقمية، بل تحوّلت في أحيان كثيرة إلى طريقة للتفكير، وحجزت لنفسها موقعاً في الأحاديث والنقاشات بين الأشخاص في الواقع أو خارج حدود الشاشات.

كما أصبح الجهل بثقافة الميمز، شكلاً من أشكال الأمية المعاصرة، وخطّاً فاصلاً بين الأجيال، إذ يمكن القول إن حضور الشخص وانخراطه في عالمنا اليوم بات مرتبطاً بشكل أساسي بفهم الميمز ومعرفة قراءتها… حتى وصلنا إلى وقتٍ بإمكاننا أن نقول فيه “أنا أصنع/ أشارك الميمز إذاً أنا موجود”… كما أن الأحداث والأمور التي لا تتحوّل إلى ميم تبقى مفتقدة لشحنة معيّنة ولتأثير ما في نفوس الأشخاص.

ومثلما تُعتبر السخرية والسينيكيّة خصائص رئيسية لوعي الأفراد في عصر “ما بعد الحداثة”، منذ بداياته في منتصف القرن الماضي، هناك حديث أيضاً عن أن الأفراد في زمننا بات يحرّكهم “منطق ميماتي مفرط”، كأداة ناجعة لتعاطيهم مع العالم الذي يبدو بالنسبة لهم كأنه يصبح شيئاً فشيئاً أكثر غرابة – أو هذا ما يبدو الأمر عليه بسبب غرقنا في المعلومات، ومعرفتنا أكثر بكثير مما عرفه أسلافنا. ويظهر هذا المنطق خصوصاً مع ظهور سيل الميمز الذي يولّده كل حدث كبير أو صغير.

ويرى باحثون أن هناك سببين رئيسيين خلف هذا الواقع. أولاً، هناك المنطق الاجتماعي للمشاركة في صناعة الميمز، يمكن ربطه بـ”الفردية الشبكية” (networked individualism). ففي عصر الفردية المتسارعة الذي نعيش فيه، يُتوقع من الناس أن يصمموا هوية وصورة فريدة من نوعها لذواتهم مع استعراض متواصل لها. وفي الوقت نفسه، يشارك الأفراد بحماس في تشكيل الشبكات الاجتماعية، مما يدل على توق الفرد الدائم للمجتمعية.

والسبب الثاني ذو طبيعة اقتصادية، حيث يقوم مجتمع الميديا المعاصر على “اقتصاد الانتباه”. إذ تحوّل إنتباه المستخدمين إلى أهم مورد في العصر الحالي، يتنافس عليه المعلنون والشركات ويتعاطون معه كسلعة تبيعها لهم منصّات التكنولوجيا الكبرى.

من هنا، يمكن ربط انتشار الميمز بالقدرة على لفت الانتباه، حيث يصبح عدد التنويعات والاشتقاقات الناتجة عن مقطع فيديو أو صورة أو خبر معيّن، مؤشراً على اهتمام المستخدمين، والذي بدوره يلفت الانتباه إلى المادة الأساسية في عملية متبادلة… ويمكن ملاحظة هذه العلاقة بوضوح من خلال عمليات التسويق (لمنتجات أو أعمال فنية) من خلال صناعة الميمز حولها.

في البداية يمكن أن نتساءل عن الفرق بين الميم وبين فنّ الكاريكاتير.

يقول رسام الكاريكاتير والفنان المصري محمد أنديل في حديثٍ إلى بي بي سي عربي إن الكاريكاتير والميم يستخدمان أدوات أساسية متقاربة جداً في الأغلب (التكوين، والشخصيات، والتعليق المكتوب، والرمزية البصرية والتشبيهات)، إلا أن طبيعة الميمز كعمل شعبوي مجهول المصدر تتيح له لغة إبداعية مختلفة عن الكاريكاتير.

ويضيف أن رسم الكاريكاتير مرتبط بأسلوب الفنان الذي يطوره على مدار سنوات من خلال تدريب كلاسيكي على الرسم وتقنياته، وكذلك بقضيته أو اهتمامه الاجتماعي المرتبط بالعمل الصحافي وأجنداته. بينما يمكن لأي شخص لديه حس كوميدي وبعض المهارات البسيطة في تحرير الصور رقمياً إنتاج ميم يصل مستواه إلى ما هو موجود في السوق، حيث أن هناك دخول أسرع بكثير لهذا الوسيط وسهولة في المساهمة فيه.

ويرى أنديل أن مجهولية صانع الميمز تتيح فرصة للتشابك مع قضايا أكثر تنوعاً، وليس بالضرورة أن تكون لها أجندة سياسية أو اجتماعية يمكن تصنيفها في سياق سياسي ما. وبالنسبة له هذا الأمر جيد لأنه ينتج أنواعاً طازجة من الكوميديا، وأكثر غرابة، ولكن بالطبع في الوقت نفسه يمكن أن ينتج خطاباً رجعياً أو عنصرياً أو حتى تحريضياً، على حد قوله.

وتعدّ “الموقفية الأممية” (International Situationism) حركة فنّية وسياسية ثورية تأسست في باريس عام 1957. كانت تتألف من فنانين ومثقفين ونشطاء يهدفون إلى نقد وتحدّي المجتمع الرأسمالي المهيمن.

وكان أحد المفاهيم الرئيسية في فلسفتهم هو “الاختطاف”، وهي تقنية تخريب أو مصادرة الصور أو النصوص أو الرموز الموجودة مسبقاً لخلق معانٍ جديدة أو نقد الوضع القائم. وكانت الفكرة المرجوة من هذه التقنية هي الكشف عن الأيديولوجيات الكامنة، والتي غالباً ما تكون خفية في المجتمع وحضّ الناس على إعادة النظر في افتراضاتهم.

وبالمثل غالباً ما تستند الميمز إلى الصور أو مقاطع الفيديو أو العبارات الشائعة المعروفة بالفعل من قبل الجمهور. على غرار الاختطاف عند الموقفيين، يأخذ هؤلاء هذه العناصر المألوفة ويعدّلونها لإنشاء رسالة جديدة. فنرى على سبيل المثال، صورةً من فيلم أو مسلسل مشهورة بقالبها الأساسي أو الموقف الذي تشير إليه، لكن الكلمات التي تصحبها تصنع معنىً جديداً تماماً، غالباً ما يكون ساخراً أو نقدياً.

كذلك، كان الاختطاف بالنسبة للموقفيين يهدف إلى جعل الفن متاحاً وتشاركياً، في مسعى إلى معارضة الثقافة النخبوية. وبالمثل، فإن صناعة الميمز ومشاركتها من قبل ملايين الأشخاص حول العالم، وغالباً بشكل مجهول، تعكس فكرة الموقفية عن ثقافة منتجة من قبل الجميع ولصالح الجميع.

وتتشارك الميمز مع فنّ الحركة التاريخية أيضاً في التدفق السريع والزوال السريع، حيث تنتشر الميمز بسرعة وغالباً ما تكون مدة حياتها قصيرة، مما يذكر بالطابع الزائل لأعمال الموقفيين. كان الموقفيون، مثلما يشير اسمهم، يسعون إلى خلق مواقف مؤقتة لزعزعة الروتين اليومي وكشف المخفي في الواقع الاجتماعي. وبالمثل، تظهر الميمز، تنتشر، ثم تختفي، وغالباً ما تُستبدل بميمز جديدة تستجيب للأحداث الحالية.

في سياقٍ متصل، يوازي البعض أحياناً بين صناعة الميمز، كنوع فنّي قائم بذاته، وبين حركتي الدادائية والسوريالية اللتين ظهرتا في أوائل القرن العشرين وتحدّتيا المعايير الفنية والاجتماعية السائدة آنذاك. وقد اعتنقت الدادائية، على وجه الخصوص، العبثية ورفض المنطق، وغالباً ما كانت تستخدم أسلوبي الفكاهة وحتى “الهراء” لنقد الأعراف والسلطة.

وعلى هذا النحو، تشترك الميمز باستخدامها للفكاهة والعبثية والمحتوى غير المنطقي في كثير من الأحيان، في بعض أوجه التشابه مع مبادئ الدادائية والسريالية. فغالباً ما تخرّب الميمز التوقعات، وتتحدى المعايير، وتخلق روابط غير متوقعة يشعر من خلالها جمهور واسع بأنها تعني أو تصف شعوراً أو حالة أو موقفاً ذي صلة، ما يشبه إلى حد كبير فنّ هاتين الحركتين.

كيف “تعمل” الميمز؟

في كتابه “القوة الخطابية للميمز في الثقافة الرقمية: الأيديولوجيا والسيميائية والتناص”، يجادل الكاتب برادلي إي. ويغنز، بأن ميمز الإنترنت هي وحدات خطابية في الثقافة الرقمية المعاصرة، تعكس وتنشر الأيديولوجيا من خلال السيميائية والتناص.

والسيميائية هي دراسة الإشارات والرموز في نصّ أو صورة معيّنة تساعد في فهم كيف يُخلق المعنى.

أما التناص فهو حين تشير النصوص (والميمز في هذه الحالة) إلى نصوص وأعمال أخرى، مما يخلق معنىً من خلال هذه الروابط.

ويمكن العثور على التناص في الميمز من خلال الإحالة على مراجع وأعمال جماهيرية أخرى. على سبيل المثال نجد فيها في أحيان كثيرة مراجع مباشرة للثقافة الجماهيرية، مثل الأفلام أو البرامج التلفزيونية أو الأغاني أو الأحداث الشهيرة. وغالباً ما تتضمن الميمز عناصر من هذه المصادر لتوليد سياق فكاهي أو نقدي.

كما تتضمن الميمز تعديلات أو إعادة دمج للصور أو مقاطع الفيديو أو النصوص الموجودة. وكثيراً ما تستعير الميمز عناصر من المحتوى الأصلي وتعيد توظيفها بطريقة جديدة ومبتكرة.

لنأخذ على سبيل المثال الميم الشهير “امرأة تصرخ على قطة” كمثال على التناص.

يجمع هذا الميم بين صورتين منفصلتين: واحدة لامرأة تصرخ وتشير بقوة والأخرى لقطة مرتبكة المظهر تجلس إلى طاولة طعام. يخلق تجاور هاتين الصورتين سيناريو فكاهياً حيث يتم تفسير تعبير المرأة وإيماءتها على أنها توبيخ للقطة، فيما لا تبدي الأخيرة أي اهتمام.

من جهة أخرى، هناك أيضاً ميم شائع إلى حد كبير وهو ميم “الصديق المشتت”.

في هذا الميم هناك ثلاثة شخصيات: رجل يمشي مع صديقته بينما يحدّق في امرأة أخرى بإعجاب، في وقت تنظر إليه الصديقة بطريقةٍ فيها استياء. عادةً يتم استخدام هذه الصورة على نطاق واسع للتعبير عن المواقف التي يتم فيها إغراء شخص ما بأمرٍ جديد بينما هو ملتزم بشيء آخر.

مثلاً نرى في واحد من التنويعات على هذا الميم، جملة “كتبك التي لم تقرأها بعد” مصاحبة للمرأة التي تقف خلف الرجل، فيما يُشار إلى المرأة الغريبة بكونها “كتب جديدة”. فقط عبر كتابة هاتين العبارتين على الشخصيتين، يخلق معنى جديداً تماماً بواسطة التناص، يلقى صدىً لدى الكثير من المستخدمين الذين مرّوا بتجربة مشابهة.

الميمز والأيديولوجيا: اليمين المتطرف نموذجاً

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments