على الرغم من أن كل شخص في العالم تقريبا يتنفس الآن هواء ملوثا بطريقة ما، إلا أن قصة تلوث الهواء هي إحدى قصص عدم المساواة البيئية.
في كل مرة تشعل ميثيليش الموقد لتطبخ، تؤلمها عيناها ذلك أن المنزل الصغير الذي تتقاسمه ربة المنزل البالغة من العمر 29 عامًا مع زوجها وابنتها وابنها وأصهارها المسنين في حي فقير في العاصمة الهندية دلهي يمتلئ بسرعة بالدخان.
وتقوم ميثيليش بالطهي فوق شولها التقليدي – وهو موقد احتراق مطلي بالمعدن يستخدم الحطب كوقود – منذ أن كان عمرها 13 عامًا وهي غالبًا ما تعاني من صعوبة في التنفس وتعاني من نوبات سعال لا يمكن السيطرة عليها.
وتقول: “النساء يأخذن هذا الأمر على محمل الجد الآن، لقد تجاهلنا دائمًا المشكلات الصحية المزعجة والانزعاج أثناء استخدام موقد الحطب، لكننا نتعلم ألا نتجاهل هذا الأمر، واليوم، إذا طبخت باستخدام الشولها، فإنني آخذ الموقد خارج منزلي كلما استطعت، وحتى في الخارج نلف الأوشحة حول الوجه أثناء الطهي حتى لا نستنشق الدخان مباشرة، وبات شراء أسطوانات الغاز على رأس أولوياتنا”.
وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك 2.4 مليار شخص على مستوى العالم يستخدمون أنواع الوقود غير الفعالة مثل الكيروسين والخشب والروث والفحم عند إعداد الطعام، فإن زيادة الوعي بهذه الطريقة ودعم التحول إلى طرق أنظف للطهي يمكن أن تحدث فرقًا كبيرًا .
وتزداد المشكلة بشكل خاص في الدول سريعة النمو في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا ، حيث تجاوز التصنيع قدرة التشريعات على السيطرة على التلوث. وتشهد الصين والهند أكبر عدد من الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء، ولكن إذا نظرنا إلى العبء كنسبة من السكان، فغالباً ما تكون البلدان الأكثر فقراً هي التي تعاني أكثر من غيرها. ويعيش ما يقدر بنحو 716 مليون شخص من ذوي الدخل المنخفض في العالم في مناطق ذات مستويات غير آمنة من تلوث الهواء.
وقد لا يكون ذلك مفاجئا – فهم غالبا ما يكونون الأقل تجهيزا للتعامل مع العواقب الصحية الناجمة عن تلوث الهواء أيضا. ولكن حتى في الدول المتقدمة وما بعد الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية، فإن الخسائر الناجمة عن تلوث الهواء يتحملها في الغالب أولئك الأقل ثراءً أو من مجتمعات الأقليات التي تعاني من أوجه عدم المساواة الأخرى.
ويقول العلماء إن حرق الوقود الأحفوري على وجه الخصوص هو الذي أدى إلى الزيادة السريعة في الوفيات بسبب تلوث الهواء الخارجي في جميع أنحاء العالم. وقد وضعت بعض الدراسات أرقاماً أعلى لعدد الوفيات، حيث ربما يصل عدد الوفيات المبكرة إلى 8.7 مليون حالة تعزى إلى التلوث الناجم عن حرق الوقود الأحفوري .
ويعد حرق الفحم والبنزين والديزل مصدرًا رئيسيًا للجسيمات الدقيقة المعروفة باسم بي إم 2.5 إس والتي تتألف من جزيئات صغيرة يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، ويمكن عند استنشاقها أن تخترق عمق الرئتين كما أن لديها القدرة على العبور إلى مجرى الدم، حيث يُعتقد أنها تزيد من مستويات الالتهاب وترتبط بعدد من المشكلات الصحية المزمنة طويلة المدى بما في ذلك أمراض القلب ومشاكل الرئة والسرطان.
وفي دراسة أجريت عام 2019، استخدم بولاسكي وباحثون آخرون أجهزة مراقبة جودة الهواء لتتبع الانبعاثات وتعرض الإنسان لتلك الانبعاثات وتأثيرها على النتائج الصحية في الولايات المتحدة. ووجدوا أدلة على أن السود والأقليات في الولايات المتحدة كانوا أكثر عرضة لخطر الأذى الناجم عن هذا التلوث من البيض غير اللاتينيين، على الرغم من كونهم أقل مسؤولية عن التسبب في التلوث في المقام الأول.
ويقول بولاسكي: “لقد وجدنا أن الأثرياء يميلون إلى المزيد من الاستهلاك، لكن هؤلاء المسؤولين عن الجزء الأكبر من التلوث يبتعدون أكثر عن الضرر، فقد وجدت الدراسة أن التعرض لجسيمات بي إم 2.5 انخفض بنسبة تصل إلى 50 في المئة خلال الفترة بين عامي 2002-2015 لجميع المجموعات العرقية الثلاث، ولكن هذا الانخفاض لم يكن موزعًا بالتساوي. في المتوسط، شهد الأشخاص البيض غير اللاتينيين ما يسميه الباحثون “ميزة التلوث” – حيث تعرضوا لـ بي إم 2.5 أقل بنسبة 7 في المئة من المتوسط، لكنهم كانوا مسؤولين عن زيادة بنسبة 12 في المئة في متوسط التعرض بسبب مستويات استهلاكهم الأعلى”. ومضى يقول إنه في المقابل فإن”عبء التلوث” غير متناسب مع إنتاج التلوث حيث يصل إلى ما يتراوح بين 56-63 في المئة بين مجتمعات السود واللاتينيين.
وتعكس نتائجهم تلك ما توصلت إليه دراسة أجريت عام 2014 والتي وجدت أن السكان غير البيض في الولايات المتحدة يتعرضون لمستويات من ثاني أكسيد النيتروجين – وهو ملوث آخر ناجم عن حرق الوقود الأحفوري – أعلى بنسبة 38 في المئة مما يتعرض له السكان البيض. وإذا تم تخفيض مستويات التعرض إلى المستويات التي يتنفسها السكان البيض، فقد قدر العلماء أن ذلك قد يؤدي إلى 700 ألف حالة وفاة أقل بسبب أمراض القلب كل عام.
ويرجع جزء كبير من هذا التفاوت إلى مدى قرب هذه المجتمعات من مصادر التلوث. ووجدت دراسة رئيسية نُشرت في عام 2021، أن الأشخاص السود والآسيويين واللاتينيين في الولايات المتحدة تعرضوا لمستويات أعلى من المتوسط من من بي إم 2.5 بمعدل يتراوح بين 73-87 في المئة من المصادر المسؤولة عن التلوث.
ويقول بولاسكي: عندما تكون غنيًا، تكون لديك القدرة على مغادرة مجتمع ملوث، لكن الفقراء ومجموعات الأقليات يميلون إلى تحمل عواقب استهلاك الأغنياء، وعلى العكس من ذلك، لا يمكنهم الانتقال من ديارهم بهذه السهولة.
وتعاني المناطق الأكثر فقراًفي أوروبا من مستويات تركيزات بي إم 2.5 أعلى بمقدار الثلث من المناطق الأكثر ثراءً . كما تميل المجتمعات الفقيرة إلى العيش بالقرب من الصناعات الملوثة أكثر من نظيراتها الأكثر ثراء، وغالبًا ما تفتقر إلى المساحات الخضراء التي يمكن الوصول إليها.
وفي دراستهم، قام بولاسكي وزملاؤه بالتحقيق في 131 ألف حالة وفاة مبكرة ناجمة عن التعرض لجسيمات بي إم 2.5 في الولايات المتحدة في عام 2015. وخلصوا إلى أن 102 ألف من هذه الوفيات كانت مرتبطة بشكل مباشر بالانبعاثات الصادرة عن السيارات والمركبات بينما كانت 29 ألف حالة وفاة من مصادر أخرى، معظمها حرائق الغابات. وتشير الأبحاث التي تمولها وكالة حماية البيئة الأمريكية إلى أن الأقليات العرقية والإثنية أكثر عرضة للتأثر بتلوث الهواء الناتج عن الصناعة والبناء ومركبات الطرق .
لكن مصادر تلوث بي إم 2.5 يمكن أن تختلف بشكل كبير بين البلدان. وقد استخدم كارن فوهرا، زميل باحث في الصحة البيئية في جامعة كوليدج لندن وزملاؤه، بيانات الأقمار الصناعية من عام 2005 إلى عام 2018 لفحص العمق البصري للهباء الجوي (إيه أو دي) ، وهو مقياس لكمية الضوء التي يمتصها ويتشرها الهباء الجوي من أجل تحديد كمية الضوء على المدى الطويل، لرصد التغيرات في نوعية الهواء في المناطق الحضرية.
وركزوا على المدن في المناطق الاستوائية، بما في ذلك ثماني مدن في الهند. ويقول فوهرا: “لقد وجدنا زيادات في معظم الملوثات من عام 2005 إلى عام 2018 في معظم المدن الاستوائية سريعة النمو”. وبينما كان تلوث الهواء في المناطق الاستوائية في الماضي يهيمن عليه الحرق الموسمي للكتلة الحيوية لتطهير الأراضي والتخلص من النفايات الزراعية، يشير البحث إلى أن المدن ذات الكثافة السكانية العالية كانت تدخل “عصرًا جديدًا من تلوث الهواء” حيث تؤدي الصناعات الناشئة والطرق ذات حركة المرور العالية والحرق المنزلي للطهو إلى تدهور الهواء.
وتقول كاثرين هاوسمان، الأستاذة المشاركة في السياسة العامة بجامعة ميتشيغان، آن أربور، إن مصادر التلوث بالجسيمات تنشأ كل عام، بدءًا من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم والتي تم بناؤها حديثًا، وحتى اندلاع حرائق الغابات. وتقول: “لا أرى أن هذه المشكلة ستختفي في أي وقت قريب”.
وتقول إنه إلى جانب كونها مشكلة صحية عامة تؤثر بشكل غير متناسب على المجتمعات ذات الدخل المنخفض والأقليات العرقية، فإن هذا التلوث له تأثير مباشر على النمو الاقتصادي لأنها تقلل من الإنتاجية. وتقول: “أرى أن هذه قضية رئيسية يتعين على الحكومات في جميع أنحاء العالم معالجتها”.
وتقول هاوسمان إن من واجب الحكومات إبلاغ الناس بمستويات التلوث المرتفعة، بالإضافة إلى التدابير الوقائية التي يمكنهم اتخاذها. وأضافت قائلة: “في أجزاء كثيرة من العالم، تكون شبكة مراقبة تلوث الهواء غير كافية، لذلك لا يعرف الناس مدى سوء التلوث في أحيائهم وحتى عندما يكون لديهم جهاز مراقبة قريب، قد لا تكون الأسر على دراية بالمجموعة الكاملة من الأضرار الصحية التي يمكن أن تتعرض لها لذلك لا يتخذ الناس دائمًا التدابير الكافية لحماية أنفسهم”.
في كثير من الأحيان، قد تكون التدابير المتاحة للأفراد للتخفيف من التلوث غير كافية أو غير عملية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات ذات الدخل المنخفض. في حين أن الطلب على أجهزة تنقية الهواء يتزايد كل عام في الهند، إلا أن هذه الأجهزة تظل باهظة الثمن بشكل كبير بالنسبة للأشخاص من الأسر ذات الدخل المنخفض.
ويقول فيكرام جاغي، مؤسس ومدير مراكز حساسية الربو في دلهي: “إن أي نوع من الصعوبات يصيب القطاعات الأضعف في المجتمع أكثر من غيره”. ويضيف أن العمال يميلون إلى قضاء الكثير من الوقت في الخارج، وبالتالي فهم أكثر عرضة للخطر. ومضى قائلا: ” لقد وجدنا أنه حتى رجال شرطة المرور، الذين ينظمون حركة المرور على الطرق الهندية كل يوم، لديهم وظائف رئوية أضعف من أقرانهم في المهن الأخرى”.
ويعد تجديد وسائل النقل العام في المدن إجراءً آخر يمكن أن يساعد في خفض الانبعاثات الناتجة عن عوادم السيارات. وتمتلك الصين أحد أكبر أساطيل الحافلات الكهربائية في العالم، بينما وافقت الحكومة الفيدرالية الهندية أيضًا مؤخرًا على مشروع لنشر 10 آلاف حافلة كهربائية في 169 مدينة في جميع أنحاء البلاد على مدى العقد المقبل. ولكن هناك مخاوف من أن التحول إلى الكهرباء وحده قد لا يمنع تلوث بي إم 2.5 المرتبط بحركة المرور، حيث أن الكثير منه يمكن أن يكون ناجمًا عن إعادة تعليق الغبار بواسطة المركبات المارة بدلاً من أبخرة العادم.
ويمكن أن يلعب تحسين المراقبة دورًا أيضًا. في الهند، يسمح تطبيق غيرن دلهي، الذي طورته لجنة مكافحة التلوث في دلهي والمركز الوطني للمعلوماتية التابع لحكومة الهند، لسكان المدينة بالإبلاغ عن أي مصدر للتلوث إلى السلطات. وقال وزير النقل في دلهي إن مستخدمي التطبيق ساعدوا في تقليل تلوث الهواء بنسبة 30 في المئة، وهو أول انخفاض منذ ثماني سنوات.
ومنذ سبتمبر/ أيلول من عام 2022، كان لدى الهند هدف طموح يتمثل في الحد من التلوث الجزيئي بنسبة 40 في المئة بحلول عام 2026 . ووفقا لبيانات وزارة البيئة الهندية، فقد سجلت تحسنا عاما، لكن تقريرا صادرا عن مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف انتقد التقدم الذي أحرزته الهند في مجال تلوث الهواء ، وقال إن خطط التخفيض ليست كافية.
ويقول بولاسكي إن الحكومات في جميع أنحاء العالم ستحتاج إلى فرض لوائح أكثر صرامة إذا أردنا معالجة المشاكل الناجمة عن تلوث الهواء. وهذا يعني اتخاذ إجراءات صارمة ضد مصادر التلوث الصناعية. ويقول: “يجب على الحكومات أن تدرك أن السعي لتحقيق النمو الاقتصادي بأي ثمن لم يعد من الممكن أن يكون الأولوية، وأنه يمكن أن يسبب ضررا كبيرا للمجتمعات الضعيفة”.