رحلة العائلة المقدسة: المسيح في مصر بين المصادر الدينية القبطية وخيال الرسامين الأجانب

“إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي ليلا وانصرف إلى مصر” (مت 2: 13-23)، بهذه السطور الموجزة دون تفاصيل، ذكرت بشارة (إنجيل) القديس متى رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر، وهي رحلة تجاوزت الحيز الديني والتاريخي، لتلهم الرسامين في الشرق والغرب، فأثمرت عن إبداعات فنية لا حصر لها على اختلاف المدارس الفكرية وعصورها.

وتحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية سنويا بتذكار رحلة العائلة المقدسة إلى أرض وادي النيل، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من تاريخ مصر وتراثها، في 24 بشنس (وفقا للتقويم القبطي) أول يونيو/حزيران، كما يذكر السنكسار القبطي، وهو الكتاب الذي يضم سير القديسين وتواريخ الأعياد والأصوام، مرتبة بحسب التقويم القبطي.

وعندما يُذكر موضوع رحلة العائلة المقدسة في مصر، سرعان ما يتبادر للذهن على الفور ذلك المشهد المألوف للرحلة في الأعمال الفنية الغربية، المكوّن في أغلب الأحيان من شيخ مترجل، القديس يوسف النجار، عليه ملامح الحزن والحيرة من مصير مجهول، ترافقه بتواضع وهدوء فتاة جميلة، القديسة العذراء مريم، تمتطي حماراً وتحتضن بين ذراعيها وهي متعبة رضيعها، يسوع المسيح، في صحراء قاحلة هربا من بطش الملك هيرودس الكبير، الذي كان يريد قتل المسيح في مدينة بيت لحم ضمن مذبحة الأطفال الذكور دون سن عامين، والتي عُرفت باسم “مذبحة الأبرياء”.

اختلف المؤرخون في تحديد المدة التي قضتها العائلة المقدسة في مصر بدقة، بيد أن التقليد القبطي يحددها بمدة تزيد على ثلاث سنوات.

ويقول جرجس داود جرجس، في دراسته “أضواء جديدة على رحلة العائلة المقدسة”، المنشورة ضمن ملف خاص عن هروب العائلة المقدسة إلى أرض مصر ضمن أسبوع القبطيات التاسع عام 1999، إن البابا ثاؤفيلس، الـ 23 بطريرك الإسكندرية (385-412 م)، يقرر في ميمره أن “الرحلة منذ الخروج من بيت لحم وحتى العودة إلى الناصرة هي ثلاث سنوات وستة أشهر، الأمر الذي يتفق مع تقدير بقاء العائلة المقدسة في مصر بمدة تناهز العامين، وقد انصرف الباقي في رحلتي المجيء والعودة”.

بيد أن دراسة تاريخية حديثة لبردية عن طفولة المسيح في مصر حددت الفترة بـ 3 سنوات و11 شهرا، وهي بردية مكتوبة باللغة القبطية الصعيدية (اللهجة الفيومية)، يعود زمن كتابتها إلى القرن الرابع الميلادي، عُثر عليها في الفيوم، ومحفوظة في ألمانيا، وترجمت نصها إلى اللغة القبطية (اللهجة البحيرية) تاسوني أنجيل باسيلي، ونشُرت ترجمة عربية لهذا النص في دراسة خاصة بعنوان “تحقيق البردية التي حسمت الفترة التي قضاها الرب يسوع في مصر مع دراسات أخرى”، من إعداد الأنبا ديمتريوس، أسقف ملوي وأنصا والأشمونين.

وبناء على هذه البردية رجح الباحث حنا جاب الله أبو يوسف، في دراسته الموجزة “المسيح في مصر (قراءات في عيد دخول المسيح أرض مصر)” أن يكون عمر المسيح خلال الرحلة كالآتي: “كان عند دخوله مصر ووصوله إلى المطرية سنة و8 شهور و7 أيام حيث ولد في بيت لحم … فيكون عمره له المجد وقت خروجه من مصر 5 سنوات و7 شهور و7 أيام”.

وعن رحلة عودة ومغادرة العائلة المقدسة أرض مصر تقول “دائرة المعارف القبطية” الإنجليزية، في مادة “الهروب إلى مصر”، إن العائلة ربما سلكت في طريق العودة، على أرجح التقديرات، “نفس المسار الذي سلكته في رحلة المجيء إلى مصر”، بعد أن تلقى القديس يوسف أمرا إلهيا سجله إنجيل القديس متى نصه: “فلما مات هيرودس، إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر، قائلا قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي” (مت 2 : 19-20).

بيد أن البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية السابق، يرى في مقاله “رحلة العائلة المقدسة في مصر”، المنشور في كتاب مجلة معهد الدراسات القبطية، المجلد السابع عام 2008، أنه لم يكن هناك داع في العودة إلى المرور على أماكن استدعتها أمور أخرى في المجيء.

ويفسر قائلا: “فمثلا مرت الرحلة على (مناطق) بابليون ومسطرد وبلبيس ولم تكن محتاجة أن تدخل في الدلتا إلى سمنود، أو تتجه غربا إلى سخا، أو تنزل جنوبا إلى وادي النطرون. وإنما من الممكن أن تتجه من بلبيس مباشرة إلى الفرما والعريش. كان الطريق في العودة آمنا بعد موت هيرودس”.

مصادر قبطية لرحلة العائلة المقدسة

وثاني أبرز تلك المصادر ما كتبه الأنبا زخارياس، أسقف مدينة سخا، نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن، إذ كتب ميمره عن العائلة المقدسة في مصر باللغة القبطية، وفُقد الأصل القبطي وظلت الترجمة العربية التي ينقل منها الباحثون، وله نسخة منشورة في القاهرة عام 1902، ضمن كتاب يضم العظات أو الميامر المريمية، المعروف باسم “اللآلئ السنية في الميامر والعجائب المريمية”.

ويقول الأب غبرائيل غامبيرارديني الفرنسيسكاني، في دراسته “إكرام المصريين للعذراء مريم من القرن السابع إلى القرن العاشر للميلاد”، إن السياق الذي تتبعه الأنبا زخارياس لا يختلف كثيرا عن نظيره لدى الأنبا ثاؤفيلس الإسكندري حول رؤياه عن لجوء العائلة المقدسة إلى مصر.

ويضيف: “الاختلاف الواضح بين العظتين هو ما يلي: في حين أن الأنبا ثاؤفيلس يذكر مختلف المناطق المصرية التي حلت فيها العائلة المقدسة بلمحة عابرة ثم يتوقف طويلا عند جبل قسقام، آخر مقاصد الرحلة، نجد أن الأنبا زخارياس يخصص لمحة موجزة لجبل قسقام ويتوسع في ذكر تفاصيل المناطق الأخرى والعجائب التي حدثت في كل منها”.

ثالث المصادر هو ما يعرف بميمر الأنبا قرياقوس، أسقف البهنسا، الذي عاش على الأرجح في القرن الثامن الميلادي، وتشير الدراسات إلى أنه كتب ميمر عن حلول السيدة مريم العذراء وابنها المسيح بجبل القوصية، المعروف حاليا بالدير المحرق، وميمر آخر عن مجيء العائلة المقدسة إلى مصر وإقامتها في منطقة شرقي البهنسا (هي اليوم دير الجرنوس في مغاغا بمحافظة المنيا).

كما ترصد الدراسات التاريخية القبطية مصادر أخرى لاحقة تحدثت عن رحلة العائلة المقدسة في مصر، من بينها ما كتبه موهوب بن منصور بن مفرج السكندري، وهو أحد كتبة ومكملي كتاب “سير البيعة المقدسة”، الذي يعرف باسم “تاريخ البطاركة”، وذكر في خاتمة سيرة البابا كيرلس الثاني الـ 67 (1078-1092) قائمة بآثار العائلة المقدسة التي زارها في أيامه.

والمصدر الثاني لأبو المكارم سعد الله بن جرجس بن مسعود، وهو مؤرخ عاش في النصف الثاني من القرن 12، بحسب دائرة المعارف القبطية، وله كتاب مهم عن “الكنائس والأديرة”، تكلم فيه عن رحلة العائلة المقدسة في مصر.

يرصد المطّلع على تاريخ الحركات الفنية وموضوعاتها في المجتمعات المسيحية الكلاسيكية، فروقا واضحة بين المنهج الذي اتبعه رسامو الغرب مقارنة بنظرائهم في الشرق، وتحديدا في الأعمال التصويرية التي استمد الفنانون موضوعاتها من حياة يسوع المسيح وقصص الكتاب المقدس عموما.

ركز المنهج الغربي على مخاطبة العقل بوصفه يرصد الواقع المحيط به ويسعى لمحاكاته ونقله من خلال تصوير نص أو منقول شعبي، لذا برز ميل الكنيسة الغربية إلى تصوير مشاهد منصوص عليها في الغالب، ذُكرت عن حياة المسيح أو القديسين، وتقديمها بظلال تحمل ملامح البيئة الغربية، التي لا تعبر بالضرورة عن البُعد الشرقي لموقع الأحداث وملامح صنّاع أحداثها.

وعلى النقيض حرصت الكنيسة الشرقية على إضفاء طابع الرمزية للحدث، وصنعت من تفاصيله لوحة تحمل الكثير من المعاني الروحية، التي تتعدى حدود المشهد محل التناول الفني لتوجيه رسالة إيمانية، لذا تفاوتت رؤية المنهجين في أن الشرق تعامل مع فن التصوير من منطلق مخاطبة “الوجدان” بصريا، بينما الغرب تعامل مع فن التصوير كمصدر تعليم من منطلق مخاطبة “العقل” بصريا.

وإن كان يصعب من الناحية العملية حصر جميع الأعمال الفنية التي استلهمت موضوع رحلة العائلة المقدسة في مصر، إلا أن إيفلين جورج أندراوس، ترصد في دراستها “تصاوير رحلة العائلة المقدسة في الفنون الغربية والشرقية وتأثيرها بالنصوص الأبوكريفية” فروقا فنية داخل نطاق زمني يستعرض نماذج من (القرن العاشر حتى القرن الثامن عشر) مع دراسة بعض الملامح المشتركة وتأثير التقاليد والكتابات على رسم لوحات الرحلة.

وتضيف: “كذلك اتُخذ وضع آخر وهو حمل الطفل يسوع داخل رداء السيدة العذراء … كما وُجد في بعض النماذج القليلة منظر لسير السيدة العذراء على أقدامها، إما أنها تحمل السيد المسيح الطفل كما في مناظر الفن الحديث في القرن السابع عشر في أرمينيا، أو أن السيد المسيح يسير بجانبها كما في الفن الحبشي”.

وعن وضع القديس يوسف النجار، تقول إيفلين: “يظهر في النماذج الغربية في المؤخرة، أما في النماذج الشرقية فغالبا ما يظهر في المقدمة، مع ظهور وضع جديد وغريب وهو حمله للسيد المسيح على منكبيه بصورة نعتادها في الأحياء الشعبية أو الريف المصري، كما في نموذج بالرمو ونموذح المتحف القبطي”.

إن حقيقة معرفتنا لقصة الرحلة وذكراها الدائم مقارنة بقصص الكتاب المقدس الأخرى، ربما يرجع إلى حد ما إلى أن القصة ألهمت فنانين استوعبوا قصة “الهروب إلى مصر” بتأمل ملفت للنظر، استخدموا فيها جميع الأساليب الفنية المتاحة لديهم لتسجيلها على جداريات أو لوحات فنية عديدة على مر العصور.

وتضيف فالنسي: “الصورة التي تمثل العائلة المقدسة، والمكونة من الحمار وعلى ظهره العذراء، أو العذراء والطفل (يسوع) معا، تروي لنا القصة كلها. إن هذه الشخصيات وأدوارها في القصة تشكل الرمز بالنسبة لتراث بأكمله”.

الواقع والخيال في تصوير الرحلة

جرت العادة في العصور الوسطى على رسم صور في كتب الشعائر الدينية جنبا إلى جنب مع النصوص الكتابية، بأسلوب اعتمد على نقل المعنى حرفيا وتصويره برسوم ترادف جزء النص المطروح، إنها الطريقة التي أطلق عليها فرانسيس ييتس في دراسته “فن الذاكرة”، التي ترجمها إلى الفرنسية دانيل أراس، مصطلح “دار الذاكرة”.

ووفقا لييتس فإن عمل الذاكرة في الثقافات التي يكون فيها المخطوط نادرا أو لا وجود له، هو في حد ذاته، يمثل بُعدا أخلاقيا ودينيا … لذا جرت العادة في القرون الوسطى على ربط الفكر بالصورة، فكان من الضروري وضع بنية تحوي عدة أجزاء، يشغل كل جزء منها صورة، لابد أن تكون مماثلة للفكرة أو الحجة المطروحة.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments