أكد الأستاذ المساعد بكلية الآداب واللغات بجامعة الشهيد الشيخ العربي التبسي في الجزائر د. رحمة الله أوريسي أن رواية «الخيط الأبيض من الليل» نص تجريبي كتبه الروائي الكويتي خالد النصرالله بدقة، وذكاء، وحرفية عالية. وأضاف أوريسي أن «المعرفة في جوف الأرض، لا في عنق السماء» جملة فلسفية مستفزة «تخترقنا بتكرارها داخل النص الروائي، حيث جعلها صاحبها محمَّلة بالكثير من الأبعاد الأيديولوجية، إضافة إلى أنه منحها إجابات لعديد من التساؤلات التي طُرحت داخل نصه، لتصبح هذه الجملة مفتاحاً لكل المغاليق. فلو تأملنا موضوع النص، فسنجد أن الكاتب طرح فكرة يعتقد البعض أنها مستهلكة، وسبق أن كُتبت فيها الكثير من النصوص الإبداعية، في حين أن الأمر مختلف كلياً».
كم من كاتب أساء لفكرته بسرده وكم من فكرة بسيطة أشرقت بطريقة طرح صاحبها
وتابع أن الجاحظ يقول في هذا السياق إن «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والقاصي والداني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك»، فلو تأملنا هذا القول، فسنفهم أن الكثير من المعاني سبق أن طُرحت، بل سبقنا إليها كثيرون، لكن الذي يصنع الفارق هو الطريقة التي تُطرح من خلالها الفكرة، ولعل هذا ما يسمَّى بالسرد، فهو الطريقة التي تُروى بها القصة، فكم من كاتب أساء لفكرته بسرده، وكم من فكرة بسيطة أشرقت بطريقة طرح صاحبها! ولعل هذا ما قام به خالد، حيث كتب نصاً مختلفاً، سواء من حيث عرضه للفكرة، أم من خلال طريقة سردها، مُتخذاً من الرقابة الإبداعية مادة لروايته، فاختار شخصية مملة، قلقة، تعيش داخل روتين مزعج، يعج بالتناقضات، كما جعلها تعمل داخل مؤسسة مقيدة ارتبطت بمراجعة الكتب وحظرها/ المراقبة، فامتهنت هذه الشخصية وظيفة التدقيق/ مدقق.
محطات متنوعة
وذكر أن الشخصية تعيش حالة من الكآبة داخل وخارج العمل، لتجد نفسها في متاهة الخوف، الهروب، العزلة، وكل ذلك جاء عبر محطات صنعها الكاتب بدقة متناهية داخل سرده، فجعل لها طفولة غير متزنة ارتبطت بهوس القراءة، ثم عمل ممل، ثم حُب من طرف واحد، أو لنقل إنها ارتبطت بظروف عاطفية غير مستقرة أثرت بشكل كبير في نفسية البطل، مما أدى إلى حدوث نوع من التوتر داخل البنية الجسدية لتدمن/الشخصية أدوية المعدة. فينتهي المطاف بها إلى الهروب تحت أنفاق الأرض، بسبب تمردها على قوانين مؤسسة نشر الكتب، وكل ذلك كان جراء رغبة البطل الداخلية في مساعدة روائي متأثر بأفكاره، حتى لا يُمنع نصه، إضافة إلى ممارسته أعمالاً مخالفة لقوانين الرقابة، من خلال مطبعته التي تركها له والده كإرث عائلي.
في الرواية جاء السرد بطريقة مختلفة استطاع من خلالها الكاتب أن يخرق أفق توقع القارئ
وأوضح أن في السرد تفاصيل كثيرة طرحها الكاتب لم ينحصر ذكرها لمجرَّد أنها توضح النص بالقدر الذي حمَّلها الكاتب أبعاداً ورؤى فلسفية وأيديولوجية اختصر من خلالها رحلة الإنسان، وبحثه عن ذاته، وحُريته، التي ربطها بالقراءة والكتابة الإبداعية.
طريقة مختلفة
وأكد أن السرد جاء بطريقة مختلفة استطاع من خلالها الكاتب أن يخرق أفق توقع القارئ، من خلال استخدام تقنيات لا تخرج عن عمومها عن دائرة التجريب، فالرواية تجريبية بامتياز، لم يقتصر فيها عمل الكاتب على سرد قصة ارتبطت بالرقابة فقط من منظور الراوي العليم الخارج حكائي، بقدر ما منح روايته صوتاً إضافياً، فجعل داخل هذا السرد سرداً آخر جاء بلسان الشخصية/المدقق، لينتقل الكاتب من تقنية الراوي الخارج حكائي إلى الراوي الداخل حكائي، لتحمل الرواية بين طياتها سرداً ضمنياً أولياً وسرداً ضمنياً ثانياً، وسرداً آخر اكتشفناه في نهاية الرواية، حيث أوهمنا الكاتب بأن شخصية المدقق هي التي تحكي القصة في السرد الثاني، في حين تقع الحيرة عندما نكتشف أن هناك تقاطعات بين السرد الضمني الثاني، والسرد الأخير/الثالث، لنلمح تداخلاً بين قصة المدقق مع قصة الأطفال الذين جعلهم المدقق في طرحه يعايشون حالة من المطاردة، والخوف، والرعب، جراء شخصية وسمها بشيطان الكتب، كما جعل المدقق- باعتبار أنه راوٍ ثانٍ- شخصية الطفل التي يتحدث عنها بلسانه، شخصية مهووسة بجمع مجلات الأطفال/حكايات الحكاية، ليوهمنا في البداية بأن هذه الشخصية هي شخصيته في مرحلة الطفولة- باعتبار أنه كان مهووساً بقراءة الكتب في طفولته أيضاً، لنكتشف في الأخير أن هذه الشخصية تتقاطع معه، لكنها لا تعبِّر عنه، خصوصاً بعد أن كشف عن هويته في الأخير من خلال بعض الملامح السردية، بأنه هو شيطان الكتب، لنقع في حيرة وتساؤل حول هوية القاص: هل كان يحكي قصة متخيلة لثلاث شخصيات (عليوي، والمهذب، وهو، باعتباره الراوي)، أم أن هؤلاء الثلاثة يحكون قصته باعتباره المدقق الذي خالف تعليمات مؤسسته، وأصبح مطارداً من قِبل الدولة، فاختار الأنفاق للعيش فيها؟
وتابع: كل هذه التساؤلات التي تبادرت إلى أذهاننا جاءت جرَّاء النهاية الفارقة التي أنهى بها الكاتب نصه، حيث استطاع أن يصنع لنا سرداً مختلفاً جمع فيه بين السرد الكلاسيكي والتجريبي، بل أوهما في بداية الرواية بأن طريقة السرد كلاسيكية، في حين انقلب الطرح في اللحظة التي قررت فيها الشخصية/المدقق كتابة رواية.
الكاتب استطاع لفت انتباهنا إلى عملية السرد نفسها أكثر من شد انتباهه إلى موضوع السرد
وأوضح أن خالد النصرالله اختار تقنيات حداثية عدة، لعل أبرزها تقنية الميتاقص، وهي تقنية تهتم بتسريد العالم الحكائي وفق إجراءات عديدة في تناول السرد والتعليق عليه نقدياً، وكذا استدعاء القارئ في بعض الأحيان، الأمر الذي جعل الكتّاب بحاجة إلى الكتابة عن الكتابة ذاتها، والحكي عن الحكي القصصي ذاته، وقد يؤدي هذا الأمر إلى تشظي الذات البطلة، لتتماهى مع باقي الشخصيات، كما تهتم هذه التقنية/الميتاقص بتصوير الكتابة الإبداعية، ورصد عوالمها التخيلية التي تعمل على تكسير الإيهام بالواقعية، لإبعاد الوهم والاستلاب عن المتلقي. وهذا ما تجلَّى في نص «الخط الأبيض من الليل»، الذي تقاطعت فيه شخصية المدقق مع شخصية الطفل الذي اختاره بطلاً لقصته الضمنية ليحكي عنه، مع شخصية شيطان الكتب، بحيث لا نعرف مَنْ البطل، أهو المدقق، أم الطفل، أم شيطان الكتب، أم كل هؤلاء؟ لنخلص في الأخير إلى أن كل تلك الشخصيات تدور في فلك واحد، لتعبِّر عن بطل واحد، وهي الذات الخاصة بالمدقق في مراحل عُمرية مختلفة، لأن الكاتب اشتق من نفسه ذاتاً لتعبِّر عنه أولاً، وعن المحيط الذي يعيش فيه ثانياً، ثم حاول أن يجعل هذه الذات متشظية في ذوات أخرى تصارع من أجل الحُرية الإبداعية من جهة، ومن أجل الحُرية الشخصية من جهة ثانية، وحُرية الأفكار من جهة ثالثة، فالكاتب قدَّم لنا شخصية المدقق في صورة تبدو غير متزنة من حيث الجانب النفسي، أولاً الفراغ الذي كان يعيشه داخل البيت/عدم وجود إخوة في البداية، ثم الفراغ العاطفي، الذي جعله ينشغل بالقراءة، لتصبح هوساً، ليلي ذلك عدم الاستقرار العاطفي عندما كبر وأصبح مُحاطاً بأخت وأم، في ظل غياب الأب/عدم وجود شريك/الحُب من طرف واحد… الخ. كل هذه الصراعات المحيطة بالذات البطلة/المدقق، إضافة إلى هواجس القراءة التي تمظهرت على شكل أحلام، وأحاديث داخلية جعلته يبني نصاً ثانياً – على غرار النص الأول الذي جاء بلسان الراوي- لتتمظهر فيه الأفكار، والمخاوف، والصراعات الداخلية في شكل قصصي طريف وساخر في نفس الوقت، انقسمت فيه الذوات إلى أكثر من ثلاث شخصيات تجلَّت في «شخصيته، وعليوي، والمهذب، وشيطان الكتب»، ومن ثم جاء السرد بأسلوب التشظي والمحاكاة الساخرة، التي ارتبط بعضها بالإحالات التناصية، والإشارات الضمنية عن طريق تفحص أنظمة القص، إضافة إلى رفض الحبكة التقليدية، والخروج على المعايير القديمة، وتحويل الحقيقة إلى مفهوم تحوم حوله الشكوك، وكل ذلك لكسب نصه أهمية خارج حدوده السردية. وبالتالي، استطاع الكاتب لفت انتباهنا إلى عملية السرد نفسها أكثر من شد انتباهه إلى موضوع السرد، محاولاً بذلك الخروج بروايته من القالب القديم للبنى السردية الشكلية إلى قالب جديد حاولت من خلاله خلخلة النسق السردي المعروف، وكل ذلك من أجل اقتحام آفاق واسعة تجعل من إبداعه متميزاً على مستويات عدة، كمستوى اللغة وطرائق السرد، وحضور التاريخ، وكذا أثر جمالية القراءة، من خلال التعرف على انزياحات الرؤية التجريبية في الرواية.
وأكد أوريسي أن الأمر لا يتوقف عند طريقة السرد، بل استطاع الكاتب أيضاً أن يجعل نصه ينفتح على التأويل، من خلال الأبعاد الأيديولوجية، والثقافية، والفلسفية التي يرمي إليها، من خلال جملة من الثنائيات الضدية التي تمظهرت بشكل واضح في النص، لعل أبرزها: الحرية/القيد، الظلام/النور، الخير/الشر، الحُب/ الكره، الأمان/الخوف… وغيرها، والتي تجتمع في مجملها لتختصر من الداخل بنية عن هذا النص التجريبي الذي كُتب بدقة، وذكاء وحرفية عالية.