“انقسم المسلمون بعد زمن إلى سنة وشيعة، وأصبح كل منهم ينظر إلى عاشوراء من وجهة نظره”، هكذا قال الدكتور محمود إبراهيم حسين، أستاذ التاريخ الإسلامي والآثار بجامعة القاهرة، في حديثه عن يوم عاشوراء، الذي يحييه المسلمون حول العالم بطرق مختلفة، في العاشر من شهر محرم الهجري.
وأضاف أستاذ التاريخ الإسلامي لبي بي سي، “أهل السنة ينظرون إليه كيوم عبادة وصيام وتقرب إلى الله. أما الشيعة فيكون بالنسبة لهم يوم بكاء وحزن”.
من هذا المنطلق، شهدت مصر تغيراً في شكل إحياء هذا اليوم عبر تاريخها. وتقول الدكتورة نهلة إمام، أستاذة “العادات الشعبية والمعتقدات والمعارف التقليدية”، إن “مصر تحب الاحتفال بالمناسبات الدينية بالكثير من البهجة، حتى لو كانت ذكرى أليمة تاريخياً”.
سنة وشيعة
كيف بدأ إحياء عاشوراء في مصر؟
لم يتحدث التاريخ بشكل واضح عن بداية إحياء المصريين لعاشوراء قبل الدولة الفاطمية في منتصف القرن الرابع الهجري، وكان الفاطميون شيعة على المذهب الإسماعيلي، ويقولون إن نسبهم يعود للسيدة فاطمة بنت النبي محمد وزوجة الإمام علي بن أبي طالب.
ويقول المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، الذي عرف بخطط المقريزي، إن مذهب الشيعة “فشا بديار مصر” في القرن الرابع الهجري، بدءاً من عام 358هـ مع قدوم القائد العسكري جوهر الصقلي من بلاد المغرب في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي.
ومع ذلك، فقد تحدث المؤرخون عن “تشيع” المصريين للإمام علي، والد الإمام الحسين وابن عم النبي وزوج ابنته، من قبل حتى توليه الخلافة بعد عثمان بن عفان، الذي يُعرف بثالث الخلفاء الراشدين بعد وفاة النبي محمد.
ويعود تاريخ التشيع للإمام علي بن أبي طالب في مصر إلى أيام خلافة عثمان بن عفان التي شهدت جدلاً واسعاً بسبب من ولاهم على شتى بقاع الدولة الإسلامية آنذاك، وبعضهم من أهله من الأمويين، ولاقى الكثير من هؤلاء الولاة معارضة لسياساتهم.
وبحسب المؤرخين، فقد شارك وفد من مصر إلى جانب وفود من الكوفة والبصرة، في قتل الخليفة عثمان. وأراد وفد مصر تنصيب الإمام علي بدلاً عنه، بعد ثورتهم واستيائهم من سياسة من ولاهم عثمان على مصر.
وجاء في كتاب “عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك” للأديب والمؤرخ المصري محمد حسين هيكل، أن وفد مصر قال لعثمان: “اعزل عنا عُمّالك الفُسّاق، واستعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا وأموالنا، واردد علينا مظالمنا”، فكره عثمان ذلك ورفض أن يكون الأمر أمرهم، وكأنه كخليفة لا يملك من الأمر شيئا.
وأضاف هيكل: “وهكذا أراد الثوار حسم الأمر، فخيروا عثمان بين أن يمحو مظالمهم أو ينزل عن الخلافة، وإلا قتلوه. فأبى عثمان تحقيق الأمرين الأول والثاني”.
واستمر التضييق على أنصار الإمام علي في مصر، بل وأُخرِج من بقي من آل البيت منها، “واستتر من كان بمصر على رأي العلوية” حتى في الدولة العباسية، بحسب المقريزي.
ومع ذلك، أخذ أمر الشيعة يقوى بمصر بعد ذلك وصولاً إلى عصر الدولة الإخشيدية، وتحديدا في عام 350هـ، حيث يذكر المقريزي في خططه أن يوم عاشوراء من هذا العام، حدثت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر السيدة كلثوم “بسبب ذكر السلف والنوح، قُتِل فيها جماعة من الفريقين”.
وكان الشيعة قبل وصول رأس الحسين إلى مصر لاحقاً – – يتوجهون في يوم عاشوراء إلى قبر السيدة كلثوم والسيدة نفيسة، وهما من أحفاد الإمامين الحسن والحسين، ومن أبرز شخصيات آل البيت في مصر.
إغلاق الدكاكين وتعطيل الأسواق
في كتابه “سيرة المعز لدين الله”، الذي بنى مدينة القاهرة، يقول المؤرخ المصري الحسن بن زولاق الذي عاش في القرن الرابع الهجري، إنه في عهد هذا الحاكم الفاطمي، وتحديداً في يوم عاشوراء من سنة 363 هـ، توجه جماعة من الشيعة إلى قبر السيدة كلثوم والسيدة نفيسة.
وأوضح ابن زولاق بأنه “لولا ذلك لعظمت الفتنة، لأنّ الناس قد غلقوا الدكاكين وأبواب الدور، وعطلوا الأسواق”.
ويروي المؤرخ عز الملك المُسَبِّحيّ أنه في يوم عاشوراء بداية من عام 396 هـ، “جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة [الأزهر] ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد”.
وأضاف المُسَبِّحيّ أن قاضي القضاة في ذلك الوقت عبد العزيز بن النعمان، جمع سائر المنشدين الذين يتكسّبون بالنوح على كربلاء، ونهاهم عن سب السلف والتكسب من النوح، وأمرهم ألا يُلزموا الناس بإعطائهم شيئاً إذا وقفوا على “حوانيتهم” أي محالهم التجارية.
السِّماط العظيم
في العصر الفاطمي، كان إحياء يوم عاشوراء في مصر مسؤولية الدولة، وكان يوماً يتشارك فيه رجال الدولة والدين والشعب المصري، فتنصب فيه الموائد وتوزع فيه الأموال على عامة الشعب.
والسماط هو ما يعرف بالمائدة، يُمد ليوضع عليه الطعام في المآدب، لكنها لا تكون مأدبة بالمعنى المعروف لما لذ وطاب من المأكولات، بل تتكون وفق ما حكاه ابن المأمون من “أجبان وسلائط ومخللات وخبز من الشعير وعدس أسود، ثم يرفع ذلك وتقدم صحون عسل النحل”.
ويقول المؤرخ المصري ابن الطوير القيسراني الذي كان شاهداً على الدولتين الفاطمية والأيوبية، إنه “كان إذا جاء يوم العاشر من محرم يحتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركب قاضي القضاة والشهود وقد غيروا زيّهم. ثم صاروا إلى المشهد الحسيني”، وذلك بعد وصول رأس الإمام الحسين إلى مصر بسنوات.
علما أن معظم المؤرخين يعتقدون أن دفن رأس الحسين في مصر هو أمر رمزيّ.
وقد قال المقريزي وعدد من المؤرخين إن رأس الإمام الحسين نُقل من عسقلان في فلسطين إلى قصر الزمرد في القاهرة في عام 548هـ، ثم دفن عند قبة الديلم.
ومنذ ذلك الحين، كان الفاطميون “ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم، ويكثرون النوح والبكاء، ويسبون من قتل الحسين، ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم”، بحسب المقريزي.
ويضيف ابن الطوير في كتابه “نزهة المقلتين في أخبار الدولتين” أنه قبل وجود المشهد الحُسيني، كان يحدث ذلك في الجامع الأزهر، ومعهم قراء القرآن والشعراء الذين ينشدون في رثاء أهل البيت.
ويروي المقريزي أنه في العام التالي 516هـ، كان الخليفة الفاطمي العاشر، “الآمر بأحكام الله” يجلس على أحد أبواب القصر على كرسيّ من الجريد “بغير مخدّة متلثما هو وجميع حاشيته” ويسلم على جميع الأمراء والأشراف “وهم بغير مناديل ملثمون حفاة”.
ويقول المقريزي إن سماط الحزن في عاشوراء كان يشهد مقدار ألف طبق من “العدس والملوحات والمخللات والأجبان والألبان والأعسال والفطير والخبز المغير لونه إلى السواد بالقصد”.
ويضيف أن البياعين كانوا يغلقون حوانيتهم إلى عصر يوم عاشوراء، وبعد ذلك “يفتح الناس ويتصرفون”.