هناك أوجه تشابه مذهلة بين المتلازمتين، ويأمل العلماء أن تساعد هذه الصلة في كشف ألغاز كلتيهما.
في منتصف عام 2023، كان طبيب الأعصاب، إيوانيس مافروديس، يعمل على حل آخر الحالات المتراكمة عندما صدمه اكتشاف جديد.
وبصفته أخصائيا في الارتجاج الدماغي، حيث أمضى سنوات عديدة يعمل في مستشفيات ليدز التعليمية التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، وجد مافروديس نفسه يتعامل مع حالات متزايدة من المرضى المصابين بفيروس كوفيد طويل الأمد، حيث يعاني الأفراد من مجموعة متنوعة من المشاكل الصحية التي تتطور بعد الإصابة بفيروس كوفيد-19.
عانى العديد من هؤلاء المرضى من أعراض صحية عصبية.
ومتلازمة ما بعد الارتجاج يمكن أن تؤثر على كل من الرياضيين المحترفين والهواة وقدامى المحاربين العسكريين وضحايا الاعتداء الجسدي ومرضى الصرع الذين يسقطون أثناء نوبة صرع.
كان مافروديس مفتوناً جداً بهذا التداخل لدرجة أنه استشهد به في مراجعة علمية لمتلازمة ما بعد الارتجاج، نُشرت في مايو 2023.
لكنه لم يكن أول من لاحظ ذلك، فقبل نصف عام من ملاحظته نشرت مجموعة من خبراء الارتجاج في جامعة دنفر بولاية كولورادو النتائج التي توصلوا إليها حول أوجه التشابه غير المتوقعة بين الحالتين –متلازمة ما بعد الارتجاج والإصابة بفيروس كوفيد طويل الأمد-.
ولاحظ باحثو جامعة دنفر بعدما طبقوا اختبارات الارتجاج القياسية على مرضى كوفيد طويل الأمد وجود نفس المشكلات، كانت إحداها مشاكل في تتبع حركات العين، التي تم تقييمها باستخدام اختبار”كينغ ديفيد”، والذي يقيس قدرة المريض على القراءة السريعة لأرقام مكتوبة بطريقة متعرجة على بطاقات من اليسار إلى اليمين.
كما أشارت نتائج فحوصات التوازن والتفكير المكاني أيضاً إلى أن المرضى قد تعرضوا فعلياً لإصابة رضحية (هزة عنيفة يتعرض لها الرأس أو الجسم، ويكون تأثيرها مؤقتا) في الدماغ.
ووجد فريق البحث أن التشخيصات المستخدمة في حالات متلازمة ما بعد الارتجاج قد توفر نظرة ثاقبة جديدة لتشخيص وعلاج المصابين بفيروس كوفيد طويل الأمد.
أما بالنسبة لهربرت رينز-بولستر، الباحث في جامعة هايدلبرغ، والذي قضى سنوات عديدة في محاولة فهم مرض موازٍ هو التهاب الدماغ والنخاع العضلي، المعروف أيضاً باسم متلازمة التعب المزمن، لم يكن هذا الربط مفاجئاً.
جذع الدماغ
في حين يُعتقد أن الالتهابات المزمنة هي أحدى المسببات الرئيسية لمرض متلازمة التعب المزمن، إذ يعاني نحو 75 في المئة من المرضى من نوبة تشبه الإصابة بعدوى قبل ظهور المرض عليهم، فقد أفادت الدراسات أيضاً أن العديد من المرضى يعانون من فرط الحركة بين الجمجمة والعمود الفقري العلوي، ويمكن أن يحدث هذا بسبب ضعف الأربطة أو حالات وراثية مثل متلازمة “إهلرز دانلوس” التي تسبب تشوهات في الأنسجة الضامة.
يقول رينز-بولستر: “تُعاني نسبة كبيرة من مرضى متلازمة متلازمة التعب المزمن من تشوهات في كيفية دعم الرأس”.
ووفقاً لرينز-بولستر، قد توفر هذه الحالات رؤى قيمة لما يحدث في متلازمة ما بعد الارتجاج.
يقول رينز-بولستر: “يقوم جذع الدماغ بتنسيق الاتصال في الدماغ، وعندما يتضرر يؤدي ذلك إلى اضطراب كامل في الاتصال وتدفق المعلومات بين المراكز المختلفة التي تقوم عليها وظائف الدماغ”.
ويوضح أن هذا هو السبب في أن مرضى متلازمة التعب المزمن قد يواجهون صعوبة في التكيف مع أي نوع من أنواع الإجهاد، سواء كان نفسياً أو عضلياً أو معرفياً، ويقول: “كل أنواع الإجهاد تعني أن هناك خللا وظيفيا سيُصيب المرضى”.
وقد أظهرت الدراسات أن مستقبلات الإنزيم المُحول للأنجيوتنسين (ACE2) والتي يستخدمها فيروس SARS-CoV-2 متوفرة بكثرة نسبياً في جذع الدماغ مقارنة بالمناطق الأخرى، في حين أن عمليات التشريح وجدت حتى الحمض النووي الريبوزي للفيروس وبروتيناته في هذا الجزء من الدماغ. ويُعتقد أيضاً أنها حساسة بشكل خاص للضرر الناتج عن التنشيط المناعي المفرط الذي يمكن أن تسببه العدوى.
نظرية رينز-بولستر تنقسم لشقين، إذ يعتقد أن الصدمة الأولية – سواء من تأثير قوي أو عدوى فيروسية – يمكن أن تضعف نشاط جذع الدماغ، بالإضافة إلى إصابة الغشاء الهش الذي يفصل الدماغ عن مجرى الدم بضرر، ويسمح ذلك للجزيئات الالتهابية بإتلاف بطانة العديد من الأوعية الدموية الصغيرة التي تغذي الدماغ، وهو أمر له عواقب وخيمة على الميتوكوندريا، وهي مصانع الطاقة الصغيرة التي تزود كل خلية في الجسم بالطاقة.
نماذج علاجية جديدة
وعلى الرغم من أن هذه التفسيرات لا تزال مجرد نظريات، يقول رينز-بولستر إنه من الممكن إثباتها باستخدام تقنيات المسح المتقدمة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي.
ويمكن أن يسمح هذا النهج للباحثين بإجراء فحوصات أكثر تفصيلاً لجذع الدماغ لدى المرضى، وهو أمر لطالما كان من الصعب القيام به بسبب صغر حجمه النسبي ومضاعفاته التشريحية.
يقول رينز-بولستر: “لفترة طويلة، كان جذع الدماغ منطقة لا يمكنك دراستها، إذ يختلف مكانه في كل مرة نتنفس، ونحن لا يمكننا أن نطلب من المريض عدم التنفس!”.
إن رينز-بولستر مهتم بشكل خاص بإمكانيات العقاقير المخدرة مثل الإيبوجين والسيلوسيبين والكيتامين والتي تعدل شبكة الوضع الافتراضي، وهذه الشبكة عبارة عن مجموعة من مناطق المخ تنشط حينما يكون الشخص في حالة أحلام يقظة أو يفكر في الماضي أو المستقبل. في وقت سابق من هذا العام، وجدت دراسة صغيرة أن الجمع بين الإيبوجين والمغنيسيوم يبدو أنه يحسن أداء الدماغ لدى قدامى المحاربين في الجيش الأمريكي الذين يعانون من إصابات الدماغ الرضية، في حين أن هناك بعض التقارير الصادرة من مرضى كوفيد طويل الأمد تُشير إلى أنهم استفادوا من العلاج بمخدر مثيلين ديوكسي والسيلوسيبين.
وأيضا تمت مُلاحظة أنماط أخرى لدى مرضى متلازمة التعب المزمن وفيروس كوفيد طويل الأمد وأولئك الذين عانوا من ارتجاج شديد بسبب إصابات الدماغ الرضية، يتمثل أحدها في إعادة تنشيط الفيروسات الكامنة المتأصلة بشكل دائم في الجينوم “الخريطة الجينية”، مثل فيروسات الهربس التي يمكن أن تسبب قروح البرد “بثور الحمى”، أو الفيروس الحماقي النطاقي الذي يسبب جدري الماء. ويُعتقد أنه بمجرد تحفيزها من جديد يمكن أن تؤدي لحدوث التهابات.
ويشتبه رينز-بولستر في أن إعادة التنشيط الفيروسي لمرضى الحالات الثلاث، يمكن أن تساهم في بعض الأعراض المستمرة مثل التعب وضبابية الدماغ.
وعلى الرغم من عدم وجود استراتيجية محددة لوقف هذا التنشيط، إلا أنه سبق استكشاف أفكار مثل إعطاء لقاح السل “بي سي جي” كوسيلة لإيقاف إعادة تنشيط سلالات الهربس المختلفة، وحققت هذه الطريقة بعض النجاح.
وفي ظل ندرة العلاجات الفعّالة وملايين الأشخاص حول العالم الذين يُعتقد أنهم يُعانون من هذه الحالات، يأمل الباحثون في أن يؤدي فهم التداخل بين الارتجاج الدماغي طويل الأمد وكوفيد طويل الأمد إلى إجابات يمكن أن تساعد جميع المصابين.