في 24 أبريل/ نيسان الماضي، بعد سنوات من المحادثات حول حظر تطبيق تيك توك في الولايات المتحدة، وقّع الرئيس جو بايدن على قانون من شأنه أن يجبر المنصة الرقمية إما على بيع نفسها لكيان أميركي، أو حظرها على المستوى الوطني.
وبقي أمام “بايت دانس”، الشركة الصينية الأم لتيك توك، حوالي تسعة أشهر، لتصفية استثماراتها.
ويبدو أن الشركة تفضّل إغلاق التطبيق في الولايات المتحدة بدلاً من بيعه. وبالنظر إلى أن جمهور تيك توك في الولايات المتحدة لم يولد سوى حوالي 13 بالمئة من إيراداتها لعام 2023، سيكون التخلي عن السوق الأمريكية الخيار المفضّل للشركة على المستوى الاستراتيجي. مع العلم أن تيك توك قد حُظر بالفعل بشكل مباشر في العديد من البلدان، بما في ذلك الهند، ولا يبدو أن التطبيق قد تأثر بشكل كبير.
وفي سياق قريب، أثار تيك توك الجدل في عدد من الدول التي علت فيها أصوات تطالب بحجب التطبيق على خطى الولايات المتحدة.
فعلى سبيل المثال، ارتبط موقع يوتيوب منذ نشأته بنشر التطرف والأخبار الزائفة ونظريات المؤامرة، من دون أن يطالب أحد بحظره. (وجد استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2023 أن 33 بالمئة فقط من البالغين الأمريكيين يقولون إنهم “يستخدمون تيك توك”. في المقابل، يقول 83 بالمئة إنهم يستخدمون يوتيوب و68 بالمئة يقولون إنهم يستخدمون فيسبوك).
إدمان تيك توك و”المتعويّة الاكتئابية”
منذ تأسيسه عام 2018، ربطت دراسات عدة بين تيك توك وبين ارتفاع حالات القلق والاكتئاب ومعدلات الانتحار بين المراهقين.
ووفقاً لتقدير نقلته مجلة نيويوركر الأمريكية، إن أكثر من ثلثي مستخدمي تيك توك النشطين شهرياً في الولايات المتحدة تقل أعمارهم عن 35 عاماً.
كما يقضي المستخدم العادي ما معدله حوالي ساعة (58 دقيقة) يومياً على تيك توك.
وقد أجريت دراسة صغيرة على طلاب جامعة صينية استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي لمقارنة نشاط الدماغ أثناء مشاهدتهم لمقاطع فيديو تيك توك المخصصة لهم (تلك التي اختارتها الخوارزمية بناء على استخدامهم السابق) مقابل تلك المعمّمة (مقاطع الفيديو التي أوصى بها التطبيق للمستخدمين الجدد).
وفيما تعمل منصات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى على تشغيل مناطق مماثلة من الدماغ، أشار خبراء إلى أن المختلف في تيك توك هو أنه يجعل المستخدمين في حالة من “التدفق/ السيلان”، بمعنى امتصاص الشخص تماماً في مهمّة، بحيث يفقد شعوره بمرور الوقت.
تدعم هذه النتيجة ما توصلت إليه دراسة تابعة لجامعة بايلور في تكساس حول أن مستخدمي تيك توك أبلغوا عن تعرضهم لمستويات “تدفق” أعلى من مستخدمي إنستغرام على سبيل المثال.
“التدفق” الذي توفره مشاهدة مقاطع الفيديو على التطبيق لا يتطلب مهارة كما هي الحالة مع الأنشطة المحفزة للتدفق مثل الانغماس بالعمل أو بالهوايات، ومع ذلك فإن التطبيق قادر على تحفيز مشاعر المتعة والتركيز وتشويه إحساسنا بالوقت، بسبب جودة الخوارزمية المستخدمة.
وأصبحت معرفة شائعة اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل كبير على التوازن الكيميائي في دماغ مستخدميها.
وقد أظهرت دراسات علمية عدة أن الإشعارات التي تصلنا على هذه التطبيقات، لا سيما الإعجاب والتعليق، أي الشعور بالمرئية عموماً، تؤدي إلى اندفاع هرمون الدوبامين في أدمغتنا، ما يجعلنا نطارد هذا الإحساس وفي سعي مستمر إلى “الإشباع الفوري”، ما يمثّل إدماناً صريحاً.
ويحيل الحديث عن الإشباع الفوري على نظرية الناقد الثقافي البريطاني مارك فيشر حول “المتعوية الإكتئابية” (Depressive Hedonia) . ففي حين أن الاكتئاب هو حالة تتميز بفقدان القدرة على الاستمتاع، فإن مذهب المتعوية الاكتئابية يعني عجز الشخص عن فعل أي شيء سوى السعي وراء إشباع الحاجة إلى الاستمتاع.
وقبل سنوات عدة من ظهور تيك توك، قال فيشر في ضوء انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الأولى، إن الشعور بالملل أصبح يعني ببساطة “أن تكون معزولاً عن المصفوفة التحفيزية للإحساس والتواصل عبر الرسائل النصّية، ومقاطع يوتيوب والوجبات السريعة. أن تُمنع، للحظة، من التدفق المستمر للإشباع السكّري عند الطلب”.
ينطبق هذا الرأي بشكل كبير على تيك توك. حتى أن اسم التطبيق المستوحى من صوت الساعة يدلّ على ارتباطه الأساسي والوثيق بالزمن، تحديداً بالوقت القصير المتاح لتقديم المحتوى عليه.
كما أن مصطلح “تيكتوكيزيشن” أصبح مرادفاً لسلوك الأفراد القائم على تقديم محتوى مرئي ومسموع قصير ومكثّف مهما كانت الفكرة خلفه – سواء كانت تحضير وصفة طعام أو مراجعة كتاب.
كان يا ما كان لدينا قدرة على الانتباه
أفاد استطلاع قام به تيك توك بأن حوالي 50 بالمئة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يجدون أنه من المجهد مشاهدة مقطع فيديو أطول من دقيقة، وأن ثلث المستخدمين يشاهدون مقاطع الفيديو بسرعة مضاعفة.
بسبب الطبيعة القصيرة للمحتوى (سبق تيك توك في هذا الاتجاه موقع فاين المندثر، والذي كان يتيح للمستخدمين صنع مقاطع فيديو لا تتعدى الست ثوانٍ)، يؤخذ على التطبيق إضعافه مدى الانتباه لدى المستخدمين (القدرة على الحفاظ على انتباهك لفترة طويلة للتركيز على مهمة معيّنة) خصوصاً لدى الفئات الأصغر سنّاً، ما أسفر عن صعوبات تعليمية باتت تتزامن في أحيان كثيرة مع تشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة عند هؤلاء، الاضطراب الذي بلغ تشخيصه ذروةً في السنوات الأخيرة.
كما أن التدفق المذكور سابقاً يمتص المستخدمين تماماً في عملية تشبه التنويم المغناطيسي، إذ أنها لا تطلب جهداً عقلياً وتولّد شعوراً يشبه الخدر.
في كتابه “مجتمع الاحتراق الوظيفي”، يفرّق الكاتب الألماني – الكوري جنوبي، بيونغ تشول هان، بين نوعين من الانتباه والوعي: الانتباه العميق التأملي والانتباه السطحي المشتّت. يقول: “نحن مدينون بالإنجازات الثقافية للبشرية – والتي تشمل الفلسفة – إلى التركيز العميق التأملي. تفترض الثقافة وجود بيئة يكون فيها التركيز العميق ممكناً. بشكل متزايد، يتم استبدال هذا التأمل العميق بنوع مختلف تماماً من الانتباه، وهو الانتباه المفرط (Hyperattention)”.
يعبّر هان عن القلق من أن التغيرات الاجتماعية الحديثة و”اليقظة المشوّشة” تؤدي في نهاية المطاف إلى التركيز على البقاء فقط بدلاً من السعي إلى العيش الكريم. ويشير إلى أن الإنجازات الثقافية تعتمد على القدرة على التركيز العميق والتأمل، وهي حالة تتعرض للتآكل اليوم بسبب الاهتمام المتقطع والمتسارع بالمعلومات والمهام. وهو يرى أن فقدان الهدوء والتأمل في الحياة العصرية، والنشاط المفرط وغير المستقر سيؤدي إلى فقدان الإبداع والعمق العقلي.
وينقل هان عن الفيلسوف الألماني والتر بنجامين نقده للعالم الحديث حيث يتلاشى الإحساس بـ”الملل العميق” الذي يصفه بكونه “طائر الأحلام الذي يفقس بيضة التجربة”. يوضح بنجامين أن النوم يمثل قمة الاسترخاء الجسدي، بينما يمثل الملل العميق قمة الاسترخاء العقلي. وقد عبّر في ثلاثينيات القرن الماضي عن أسفه لأن “أعشاش طائر الأحلام” من الهدوء والوقت تختفي.
هل يجعلنا تيك توك أكثر غباءً؟
أحد الانتقادات الرئيسية الموجهة إلى تيك توك هي أنه يقدم محتوى تافهاً يساهم في تسطيح العقول.
غير أن البعض يحاجج بأن ذلك حكم متسرّع ومتحامل على الأجيال الصغيرة من منطلق التمييز القائم على السنّ.
لكن مع ذلك، تظل هيمنة السرعة على التطبيق، مهما كان المحتوى المقدّم، تنطوي على ضرر شامل على مستوى القوى الإدراكية.
في كتابه “آلة الفوضى: القصة الداخلية لكيفية قيام وسائل التواصل الاجتماعي بإعادة توصيل عقولنا وعالمنا”، يقول الكاتب الأمريكي ماكس فيشر إن “العقل القارئ” في العادة يشجع على التفرد لأنه يتطلب تركيزاً عميقاً عند القراءة، مما يمكّن القارئ من تخصيص المزيد من الوقت العقلي والمزيد من المساحة في الدماغ لتحليل الأفكار بشكل أعمق. في المقابل، يمنع العقل الرقمي في وسائل التواصل الاجتماعي فرص التفرد الشخصي بسبب أنماط المشاركة العامة، والتشهير، والانكشاف الذاتي الطوعي”.
من جهته، خصّص الفيلسوف الفرنسي برنارد ستيغلر جزءاً من عمله على وسائل التواصل الحديثة أو ما يسمّيه مجتمعات “الشعبوية الصناعية”، لمفهوم “الغباء المنهجي” الذي بات يهيمن بنظره على هذه المجتمعات.
وفقاً لستيغلر، هناك تراجع للقدرات الفكرية نشهده في مجتمعاتنا المعاصرة وهو ليس نتيجة عشوائية، بل نتيجة عمل منهجي. برأيه تعيش المجتمعات الصناعية “في ظل هيمنة الغباء والسينيكية الناجمين عن البؤس الرمزي والروحي”.
يتجلى “الغباء المنهجي” برأيه في الاعتماد الكلّي على الأجهزة التكنولوجية والوسائط الرقمية، مما يؤدي إلى فقدان تدريجي لانتباهنا وتركيزنا ولمهارات التفكير النقدي. وهو يجادل بأن العصر الرقمي يعزز ثقافة الإلهاء المستمر والمعلومات السريعة، مما يعيق قدرتنا على تعميق فهمنا وتطوير التمييز النقدي لدينا.