نضال الأشقر ورسالة اليوم العربي للمسرح

تلقي الفنانة اللبنانية القديرة نضال الاشقر رسالة اليوم العربي للمسرح في العاصمة العراقية بغداد 10 الجاري مع انطلاق انشطة الدورة الـ 14 لمهرجان المسرح العربي الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح والذي يستمر لمدة 8 أيام حافلة بالعديد من الأنشطة الفكرية والعروض المسرحية.

وكتبت الفنانة اللبنانية نضال الاشقر، في رسالتها بعد ان اختارتها الهيئة العربية للمسرح هذا العام قائلة: إنه زمن التحولات والحصارات وحروب التصفية والإلغاء والصعاب وكياناتنا مشلعة مخلعة مترنحة، وسط هذا كله، وسط هذه الفوضى العارمة، وسط كل هذا الدمار، وسط هذا القتل والفساد، ومع كل ما يجري من حولنا من تدمير متعمد لمدننا التاريخية الرائعة ولإنساننا وتدمير أرضنا وبحرنا وساحلنا ومدارسنا وتاريخنا وثقافتنا وذاكرتنا، وسط هذا كله نقاوم ونستمر.

قبل الحرب الأهلية في لبنان، كانت بيروت مسرحا كبيرا لأحلام النخبة من اللبنانيين والعرب وكانت عاصمة الخيال والمغامرة والحرية، وفي تلك الأجواء الرائعة خضنا تجربة محترف بيروت للمسرح التي كانت نواة ثقافية وفنية دينامية، رحنا من خلالها نبحث بحثا نابضا بالحياة عن شكل جديد ومضمون جديد للمسرح، عن مسرح حديث يشبهنا، يحمل هواجسنا وأمنياتنا، وحولنا تجمع فنانون ورسامون، شعراء وكتاب وصحفيون، رأوا في تجربتنا محاولة لا للتفتيش عن ذات مسرحية أصلية فحسب، بل عن ذات إنسانية تريد أن تولد، ساهمنا مع زملائنا الآخرين في المسرح اللبناني وفي الحياة الأدبية والثقافية اللبنانية في خلق تلك الرعشة الجميلة التي جعلت بيروت الستينات والسبعينات صفحة ذهبية فريدة وخالدة في كتاب تاريخ المنطقة، ولا مرة قبل ذلك وخلاله واليوم فهمت المسرح إلا حياة تستبق الحياة.

وأضافت: إن اﻹبداع وفرح اﻹبداع ونظرة اﻹبداع إلى الحياة والفن والكون، وانطلاقة اﻹبداع من الفكر النير المنفتح الحر، هو الحدث الأهم الذي غير مجرى حياتي نحو حياة أفضل ونحو حرية واعية، واﻹبداع لا ينطبق فقط على الفنون، بل أيضا على السياسة وتحرير السياسة من العادي ومن المسلمات والتقاليد العفنة، والمبدع هو المحرض الرؤيوي الذي يحرك المستنقعات ويحرك المسلمات القائمة ويخربط السكون. وهو الذي يخرج من الثابت إلى الأفق الوسيع البناء، هذه الوثبة هي التي تخرجنا من العادي إلى عالم الحلم المجنح وإلى استمرارية الحياة المنتجة المغامرة.

وأردفت قائلة: كيف لنا نحن المبدعين أن نشاهد المجازر والأطفال والقتلى والعائلات المدمرة والبيوت التي سطحت على الأرض في فلسطين والعراق ولبنان وسورية وليبيا والسودان، وألا نعبر بأعمال مسرحية وعلى مدى قرن كامل ما كنا شهودا عليه، ألسنا نحن مؤرخين من نوع آخر؟ السنا نحن مشاهدين ومسجلين للحاضر؟ ألسنا نحن ناقلين التراجيديا الإنسانية على المسرح كي تصل إلى قلوب الناس وعقولهم؟ ألسنا نحن من ينتزع الأقنعة عن كل وجه مزيف وعن كل قضية فاسدة؟ اليوم نحن في العراق، في بلاد ما بين النهرين، حيث كانت بابل وسومر وأكاد، وكانت نصوص الاحتفالات والصلوات والأعياد وكأنها مسرح كبير. وكان غلغامش وإنكيدو، وكان ايضا النص الحواري الأول الذي وصلنا وهو النص البابلي: «السيد والعبد»، ثم كان الإغريق حيث انطلق المسرح وانطلقت معه الديموقراطية، أو حيث كانت الديموقراطية وانطلق منها المسرح ولم يتوقف هذا الفن الجماعي الإنساني إلى يومنا هذا بكل حلله التي تتماشى مع مختلف بلدان العالم، وكان الإغريق وكان المسرح بين أثينا وسبارتا، حيث انتعش المسرح الإغريقي في أثينا الديموقراطية وحيث مات في سبارتا ألأوتوقراطية العسكرية.

وقالت: ولاعجب أن يكون المسرحي الكبير برتولد بريشت قد اضطر إلى الهجرة من ألمانيا النازية السبارتية، أما فاكلاف هافل الشاعر الكاتب المسرحي الكبير فلقد كان في السجن عندما كانت تشكوسلوفاكيا أي سبارتا تحت النفوذ العسكري، فأصبح بعد أن تحررت بلاده رئيس جمهورية تشكوسلوفاكيا/أثينا، وهكذا عبر العصور يزدهر المسرح في المجتمعات المنفتحة وينحسر في المجتمعات المنغلقة، لقد كانت وظيفة المسرح أيام الإغريق تحريضية سياسية بامتياز، حيث تتمظهر فيها الديموقراطية، وحيث يسمع الرأي الحر وحيث تجلى الحوار أفقيا لمخاطبة الآخر والمجتمع ككل، وعموديا لمخاطبة الآلهة والمصير. وتلك الفترة قد تكون الوحيدة التي كان فيها المسرح من صميم النظام سياسيا ووجوديا. وبقيت أثينا، المتعددة المدارس الفكرية عصية على الرأي الواحد الأوحد حتى في أول أيام المسيحية، حيث أستمع الناس إلى تبشير ماربولس الرسول طويلا وناقشوه مطولا حتى أن بولس الرسول قال في إحدى رسائله: «إنهم أنهكوني فتركت المدينة»، الرائع في المسرح الاغريقي مسرح أسخيليوس ويوروبيديس وأريستوفان وسوفوكليس، كان المسرح تحريضيا وسياسيا بامتياز حيث تبارت كبار الأدمغة الأكاديمية والسياسية أمام جمهور غفير. فمن هذا اﻹطار كانت الساحة الأساس منصة سياسية ووجودية في آن. ثم جاء أرستوفان ولم يتردد بإدخال الهزلية إلى مقاربته النقدية اللاذعة، هل من الممكن في مجتمعاتنا اليوم؟ أن ينمو الفن المسرحي وأن يعمم في متحداتنا التي لا تتحمل في أكثر الأحيان تعبيرا حرا تغيريا كالمسرح؟ هل يمكن مثلا في مجتمعنا أن تكون هناك شخصية كسوفوكلس: شاعر وحكواتي، مفكر ومسؤول سياسي، وهو كان منخرطا ايضا في الحياة العامة كوزير خبير استراتيجي، وفي الوقت نفسه، كان قد كتب 123 مسرحية وكان يصبو إلى التغيير من خلالها؟

وتابعت: لكي يلعب المسرح دورا ديموقراطيا فعالا، يجب أن تكون هناك ورشة عمل كبيرة وخطة تنهض بالبلاد وتحولها إلى خلية نحل، حيث يعمل فيها المثقفون والفنانون والطلاب والأساتذة يدا بيد للنهوض بمجتمعاتهم وبيئتهم إلى عالم من البحث والدرس والتمحيص والتعبير الحر وصولا إلى المسرح، لذلك يجب أن تكون هناك العشرات من المراكز الثقافية والمسارح والمكتبات العامة كي يصبح المسرح أداة فعلية وفاعلة في مجتمعاتنا.

أما اليوم، فإن مدينة بيروت مثلا تشهد أقفال مسارحها واحدا تلو الآخر، وتشيح الحكومة الطرف ولا تساعدها، لأنها لا تعتبر أهميتها في بناء المجتمع والشباب خاصة، وهو يدل على جهل وتراجع أكبر لدى الدولة والمسؤولين في فهم هذا الفن.

أما أنا فما الذي شدني إلى ذلك الضوء؟ إلى تلك البقعة الصغيرة الساحرة التي تجسد ما نريد وما نريد أن نقول وما نود ان نوصله إلى الآخر أبعد وأبعد، أكثر وأكثر؟!

لعل ما شدني هو بالذات تقهقر الديموقراطية في عالمنا والبحث عن أداة للتحريض إلى الحوار وعن واحة للتفاعل مع الآخر، لأنه رغم القمع الصريح أو الخبيث في مجتمعاتنا، فقد وجد المسرح اللبناني دائما طرقا ومحاولات جدية لإيجاد لغة مسرحية فعالة، والولوج بتجربته إلى العالم الفسيح. ولكنه لم يستطع أن يصبح جزءا فعالا من التغيير لعلة في نظامه السياسي وتكوينه. أما بالنسبة للعالم العربي عامة فقد عرف أيضا ومضات مهمة في هذا الفن، حيث كان للمسرحيين عامة ما يكفي من الحنكة كي يلتفوا على الممنوعات والرقابة، وإن هذا لا يكفي لتعزيز دور المسرح كأداة للتعبير الحر والديموقراطية.

إذ إن المسرح هو من يعيد الإنسان إلى روحه وجذوره ووجدانه، ويربطه ربطا سحريا بأرضه ولغته وتاريخه ومستقبله، وهو في تكوينه يرفض كل ما يفرق، ويجمع تحت سقف واحد، جمهورا متعدد الانتماءات ويحرض على الحوار المثمر وعلى الفعل والتفاعل.

«لكن الحوار كما نريده ونبتغيه لا يستقيم فعليا بدون تعميم الديموقراطية واحترام التعددية وكبح النوازع العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء» كما قال سعدالله ونوس. وتحرير الرجل والمرأة من كل الموروثات وكل العادات الآسنة التي نجرها عبر السنين، وهو فضاء للمقاومة الثقافية وللبقاء منصة إبداعية فكرية وفلسفية وفنية، نحن بحاجة إلى هذه المساحة اﻹبداعية الحرة والانفتاح على الآخر، والتواصل فيما بيننا وقبول الآخر واحترام الاختلاف، فما هي الديموقراطية إن لم تكن كل ذلك؟ ضمن هذه الرؤية يسكن هوس المبدعين الخلاقين وتوقهم إلى المعرفة، وهنا تكمن قوتهم في الانتقال بخفة بين الزوايا المضيئة والزوايا المعتمة وفي نقض الثابت والهامد، وفي الهدم المخلص، فإذا تخلى المبدعون عن كل ما يدين ويكشف ويصدم ويفضح ويثير، إذا تخلوا عن إدانة الظلم وتعرية القهر ودعم العدالة، فانهم يتخلون عن سلاحهم الأمضى، وهو اللعب بالنار.

انطلاقا من هذه المسؤولية، وانطلاقا من ذلك المسرح الفريد الذي نتوق إليه: عالم ليس فيه حروب حقيقية ولا يراق دم حقيقي، ولا سيوف ولا رماح إلا من خشب ولا قنابل إلا من دخان لكنها تفعل في النفوس والخيال وهي أمضى من السيف القاطع وأعمق من الجرح وأبعد من الواقع، عالم يعتلي فيه الفقير العرش فيصبح حاكما في ثانية واحدة ويسقط الطاغية في ثانية أيضا ويقوم الشعب بثورة ويصل إلى مبتغاه بلحظة تجل مسرحي.

هذا الإبداع وهذه الحرية هو الخطير والجميل في عالمنا المسرحي، فما هي الديموقراطية إن لم تكن كل ذلك وما هي حقوق الانسان التي نمارسها في المسرح؟ حرية التعبير، حرية المعتقد، حرية الحركة والخيال والكلمة، حرية الاجتماع والمجاهرة، كل ذلك يطبق في المسرح، أما خارج المسرح، فهناك أنظمة متهاوية كاذبة بائسة تلوي مع أية ريح، وليس لها قواعد ولا جسور ولا بناء صلبا ولا مستقبلا أكيدا وفي الخارج ايضا ديموقراطية تتجزأ وتتقسم إلى قياسات، وكل قياس ينقسم إلى أجزاء. أما في الداخل، فعالم من الإبداع والتناسق، كل يقوم بعمله واختصاصه، حرية تامة في التعبير والتطبيق، الفنان الصحيح في المكان الصحيح. عالم منظم، مفتوح، انساني بجسده وعقله وخياله.

أعتقد أن الفن الجماعي الذي يربط قضايا الناس ينعش الديموقراطية ويذكرنا بحقوقنا، هذه المزايا تربطنا بعضنا ببعض وتخفف من آلامنا وشعورنا بالوحدة والانعزال وتشعرنا أننا نتشارك في بناء المجتمع ككل.

واختتمت رسالتها معلقة: هكذا فهمت المسرح منذ بدأت العمل، وهكذا أواصله في مسرح المدينة الذي أسعى بالتعاون مع جميع الخيرين والخلاقين أن يكون نواة جديدة لأحلام ومحاولات جديدة، نسعى في إطارها إلى إيجاد لغة تطلقنا إلى عالم أردنا أن نغيره فلم ننجح، ولكننا سنظل نحاول تغييره. ولن ندعهم يقضون على احلامنا، وسنقاوم الجهل والرقابة والتسلط، إلى العدل بين الناس والحياة المدنية الكريمة، تلك البقعة من الضوء التي يدخل اليها الناس ليفتحوا حلمهم وخيالهم ورؤاهم، ذلك الوطن ضمن كل وطن، تلك الحرية فوق جميع القيود، ذلك الجمال رغم كل بشاعة، هكذا نريد مسرحنا أن يكون، وإذا قيل: لا شيء في المسرح حقيقي ما دام هو هذا الحلم، نجيب، لذلك هو الحقيقة! ولعلها الحقيقة الوحيدة.

 

المصدر: الأنباء
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments