نعيش في عالم صاخب مزدحم بالناس، ورغم ذلك يبدو أن الشعور بالوحدة آخذ في النمو، فلماذا يشعر كثيرون بالعزلة وماذا نفعل حيال ذلك؟
توجد أنواع من الشعور بالوحدة، ولكل شخص شعوره الخاص بها، فماذا تمثل الوحدة بالنسبة لك؟
الوحدة قد تكون على هيئة مدينة، تسير في شوارعها وسط صخب وضجيج وزحام وثرثرة وضحك، لكن تظل غريباً مشوشاً ومنعزلاً عن العالم.
الوحدة قد تكون علاقة تحولت إلى مأساة، أو زواج أو شراكة مليئة بكلمات لم يستمع إليها أحد واحتياجات غير ملبّاة، الوحدة هي أن تكون موجوداً، ولكن لا يراك أحد على الإطلاق.
من المهم بالتأكيد أن نفهم هذه المفارقة، يقولون إننا نعيش في “وباء الوحدة”، وهو وباء عالمي لا يعرف الحدود، يصيب الصغار والكبار، إلى درجة أنه قادر على إعادة برمجة أدمغتنا.
وأظهرت دراسة أجرتها بي بي سي عن الوحدة، شملت 55 ألف شخص في شتى أرجاء العالم في عام 2018، أن 40 في المائة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً يشعرون كثيرا بالوحدة. كما أظهرت دراسات أخرى أن نحو 10 في المائة من البالغين في أنحاء العالم يشعرون بالوحدة، وبطرق مختلفة.
وتشير إحصاءات إلى أن أعداد سكان المدن آخذة في النمو بسرعة، ومن المتوقع أن يعيش 68 في المئة من سكان العالم في المدن بحلول منتصف القرن الجاري.
والسؤال في عالمنا هذا المزدحم والمترابط بالتكنولوجيا، لماذا لا نزال نشعر بالوحدة، حتى وسط الآخرين؟ وهل هو حقا وباء آخر، ينبغي لنا دائما تفاديه، ومعالجته، والقضاء عليه، والنفور منه؟ أم يمكننا أن نتعلم منه أشياء؟
الشعور بالوحدة مفهوم غامض ومعقد، شيء نختبره جميعاً وبطريقتنا الخاصة.
وعلى الرغم من ذلك يمكن حالياً وضع تعريف علمي للشعور بالوحدة بأنه حالة انعزال وتباعد بين العلاقات الاجتماعية الفعلية وتلك العلاقات المرغوب فيها، بمعنى أنه شعور يعكس حقيقة مفادها أن الشعور بالوحدة ليس بالضرورة لأنك بمفردك.
ويعتقد سام كار، عالم نفس في جامعة باث متخصص في دراسة العلاقات الإنسانية، أن “الأسطورة الكبرى” الشائعة بين الناس تقول إن التغلب على الشعور بالوحدة هو أن تكون وسط آخرين.
ويضيف كار، مؤلف كتاب “كل النفوس الوحيدة”، الذي يتناول في متنه تجارب أناس مختلفة يشعرون بالوحدة: “قد يكون الناس هم السبب في ذلك الشعور بالفعل. فكل شخص عبارة عن قطعة من أحجية (لعبة بازل) لصورة منفصلة، وجميعنا نريد أن نشعر بأننا ننتمي إلى هذا العالم. وفي كثير من الأحيان يكون الناس هم السبب في عدم شعورنا بذلك، حتى لو كانوا أصدقاء أو شركاء، ربما يجعلوننا نشعر بأن أحدا لا يرى وجودنا، أو يتعين علينا أن نتظاهر بأننا شخص آخر في صحبتهم. وبالنسبة للكثير من الناس، يبدو أن هذا هو جوهر شعورهم بالوحدة”.
وتتفق باوند ألبيرتي على أن العزلة عن الآخرين ليست بالضرورة هي ما تجعل الناس يشعرون بالوحدة.
وتقول: “يعتقد الناس أن الشعور بالوحدة يعني أنه يتعين عليك أن تكون بمفردك، بيد أن أبحاثي أظهرت أن المسافة الجسدية بيننا وبين الآخرين ليست هي التي تجعلنا نشعر بالوحدة، بل المسافة العاطفية”.
وتضيف: “أكثر الناس شعوراً بالوحدة هم أولئك الذين يعيشون في علاقات من المفترض أن تكون مرضية بالنسبة لهم، لكنها ليست كذلك. كم شعُرت ببعض الأوقات الأكثر وحدة وكان حولي عدد كبير من الناس لا أتفق معهم ولو عن بعد”.
تلقت كار مؤخراً رسالة من الولايات المتحدة، كشفت فيها صاحبتها أنها متزوجة منذ 50 عاماً، وقالت إن زوجها كان دائماً هو سبب شعورها بالوحدة، فبعد أن كانت تأمل في أن يكون الزواج هو العلاج، أصبح الزواج هو السبب.
عموماً إذا أعطى أحد الشريكين أولويةَ للاتصال الجسدي، بينما كان الطرف الآخر يبحث عن علاقة ترابط فكرية، فقد ينتهي بهما المطاف إلى الشعور بالوحدة معاً.
وتضيف: “بعض الأشخاص الذين لديهم ارتباط قوي بشخص واحد لا يشعرون بالوحدة، في حين أن آخرين، يحيط بهم العديد من الأشخاص، يبحثون عن علاقات أعمق، ويشعرون بالوحدة”.
الشعور بالوحدة متأصل في إنسانيتنا، ويعتقد البعض أنه يخدم وظيفة تطورية تدفعنا إلى اتخاذ تدابير تعزز قدرتنا على البقاء على قيد الحياة خلال فترة قصيرة. وكما يدفعنا الجوع إلى البحث عن الطعام، فإن الشعور بالوحدة، كما تقول ريمس، “يخبرنا أن هناك خطأ ما في بيئتنا الاجتماعية وأننا بحاجة إلى معالجة الأمر”.
بيد أن الزمن تغير، وتغيرت معه المواقف تجاه الشعور بالوحدة والعزلة. وتزعم باوند ألبيرتي، في دراستها، أنه قبل حلول القرن التاسع عشر، لم تكن لغة “الوحدة”، كما نستخدمها اليوم، موجودة بالفعل.
في ذلك الوقت، كان الشعور بالوحدة يعني ببساطة أن تكون شخصا يعيش بمفرده. ونادراً ما كان ذلك شيئاً سيئاً، بل كان الشعور بالوحدة يعزز التواصل مع الطبيعة أو الله من خلال التخلص من الضوضاء.
وتقول ألبيرتي: “عندما كتب الشاعر ويليام وردزوورث عن التجوال (وحيداً مثل سحابة)، كان يتحدث ببساطة عن الشعور بالوحدة. لم يكن هذا يعني أنه يعاني من النقص العاطفي الذي نربطه الآن بكلمة (وحيد)”.
بيد أن المجتمعات في شتى أرجاء العالم تغيرت كلياً خلال قرنين، وتزعم باوند ألبيرتي أنه مع ضعف المفاهيم الدينية وغيرها من المعتقدات التقليدية، نمت المدن مع تشتت المجتمعات والأسر، وبالتالي أصبح الناس “مجهولين” أكثر وأقل ترابطا، وربما لعب سلوك الفرديّة دوراً أيضاً.
تقول باوند ألبيرتي: “عندما أنظر حولي وأرى الافتقار إلى الرعاية الاجتماعية، والافتقار إلى التواصل، والافتقار إلى القدرة على الشعور بالانتماء إلا عندما نشتري الأشياء، التي أصبحت بشكل متزايد الطريقة الوحيدة التي تجمعنا معاً في العالم المادي، يبدو لي أنه ليس من الغريب حقاً أن نشعر بالوحدة، بل الشيء الغريب هو ألا نشعر بالوحدة”.
وتقول ألبيرتي: “أولاً، يجب التمييز بين الوحدة العابرة والوحدة المزمنة. إذا شعرت أن الأعراض التي تعاني منها تمنعك من أن تعيش حياتك، وتعمل، وتبني علاقات، وإذا كانت محزنة، فلابد أن تذهب إلى أخصائي طبي، وتشاركه ما تشعر به”.
وتضيف: “من المهم أيضاً التمييز بين الوحدة التي تُفرض علينا، وتلك التي نختارها. يمكننا جميعاً اختيار عزل أنفسنا، كما أن العديد من الناس يواجهون ظروفاً، مثل العمر وقضايا الصحة والفقر والتمييز، وجميعها تفرض عليهم العزلة. وهذه العوامل تحتاج إلى معالجة عاجلة على مستوى المجتمع والحكومة”.
بيد أن المشكلة الشائعة على المستوى الشخصي هي أننا غالباً نتردد في التواصل مع الناس، لا سيما الغرباء، على الرغم من الفوائد المؤكدة علمياً، وفقا لدراسة أجريت عام 2014، درس فيها باحثون من جامعة شيكاغو وجامعة كاليفورنيا بيركلي ذلك الأمر.
بدأ الباحثون بسؤال ركاب في شيكاغو عما إذا كانت الدردشة مع شخص غريب تحسّن حالتهم المزاجية أثناء رحلتهم الصباحية، واعتقد معظمهم أن الأمر ليس كذلك، بيد أنه عندما قسّم الباحثون العينة إلى مجموعات، وطلبوا من البعض بشكل عشوائي عمل ذلك، وطلبوا من البعض الآخر التزام الصمت، أظهر أولئك الذين انخرطوا في دردشة مع غرباء أنهم أكثر استمتاعاً أثناء رحلتهم.
كما تحدت تلك الدراسة تحيزاً تشاؤمياً بالفطرة لدى المشاركين، فقبل إجراء الدراسة، اعتقد 40 في المائة فقط من المسافرين بالقطار أنهم سيجدون شخصاً ثرثاراً يرغب في الدردشة. وفي الواقع، فعلوا جميعاً ذلك. حتى أن النتائج دفعت بعض شركات تنظيم الرحلات بالسكك الحديدية في المملكة المتحدة إلى تخصيص “عربات للدردشة” مؤقتة في عام 2019 خلال التجربة التي أجرتها بي بي سي، بينما وضعت شركة حافلات بطاقات “بدء محادثة” على خطوطها.
وتقول ألبيرتي: “كلما أصبحنا أكثر شعوراً بالوحدة، اعتدنا تلك الوحدة، وأصبح التواصل مع الآخرين أكثر صعوبة، لذا إن كنت معتاداً على الوحدة واعتدت الشعور بالرفض، فقد تعتقد أن تعبير وجه شخص ما تجاهك علامة رفض، أو أن لغة جسده توحي برفضه لك. ويصبح الأمر بمثابة نبوءة تحقق نفسها”.
لا أحد يدعو إلى مضايقة شخص من الأفضل تركه بمفرده، ولكن عندما تشعر بالوحدة وسط حشد من الناس، حاول باحترام أن تبدأ محادثة مع شخص يقف قريبا منك. أو حتى حدد لنفسك هدفا يتمثل في التحدث إلى شخص جديد كل يوم، إذ تشير الأبحاث إلى أنه عندما تفعل ذلك، تزداد ثقتك بنفسك ويتراجع شعور الخوف من الرفض. حتى المحادثات القصيرة مثل “مرحباً” أو “شكراً لك” يمكن أن تساعدك إلى حد ما في تحسين شعورك.
لكن يجب أن ندرك أيضاً أن التغلب على الوحدة لا يتعلق فقط ببناء علاقات، بل نحتاج إلى بناء ورعاية علاقات ذات مغزى.
وتعتقد ريميس أن العمل في مجال تطوعي وسيلة قوية لعمل ذلك، وتقول: “مساعدة الآخرين تحجب الأضواء عن أنفسنا وعن حياتنا، وينصب كل اهتمامنا على فرد آخر نفكر في كيفية تغييره، ويساعدنا ذلك أيضاً على الشعور بالترابط، على نحو يقلل مستويات الشعور بالوحدة”.