لسنا عرباً.. مصريون يتعلمون اللغة القبطية “لإحياء هويتهم الأصلية” وحمايتها من الاندثار، فما القصة؟

لا تزال اللغة القبطية تشكل رابطا وثيقا وجسرا عابرا بين الماضي والحاضر حتى الآن لدى عدد من المصريين، من غير المتخصصين، الذين يسعون إلى تعلمها بغية الحفاظ على إرث ثقافي وإحياء ما يقولون إنه هويتهم التاريخية، في عالم تلاشت فيه الحدود بين الشرق والغرب، وتداخلت فيه المفردات اللغوية، كما اغتربت موروثات حضارية داخل مجتمعاتها الشرقية.

هذا ما دفع عدداً من المصريين إلى إعادة قراءة تاريخهم القديم، والاهتمام بتدريس اللغة القبطية أو تعلمها، مستفيدين بمنصات التواصل الاجتماعي، وما تقدمه من خدمات مرئية ومكتوبة، وهو ما شجع خبراء في اللغة القبطية على إطلاق فصول دراسية عن بُعد تقدم مادة تعليمية وحضارية للمصريين الراغبين في ترسيخ صلتهم بإرثهم اللغوي القديم، وإحياء استخدام هذه اللغة بلفظها “الأصيل”.

“لسنا عربا ولا أفارقة”

يؤكد سيدهم أن القبطية تعيش حاليا مرحلة انتعاش نسبي، مشيراً إلى أن زيادة الاهتمام يرجع إلى انتشار الإنترنت في كل مكان، وهو ما أسهم بدور كبير في تسهيل تبادل المادة التعليمية واللغوية، فضلا عما يبذله الجميع، المعلم والمتعلم، من جهود فردية في هذا الصدد.

ويقول: “ساعد انتشار صفحات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، في تيسير سُبل التواصل بين معلمي اللغة القبطية وأولئك الراغبين في تعلمها، الذين كانوا يواجهون صعوبة في الماضي في العثور على مصادر أو معاهد لغوية تساعدهم في تلبية رغبتهم”.

وينادي البعض بتدريس اللغة القبطية في مراحل التعليم المختلفة في المدارس المصرية بهدف “إحياء الهوية”، ويطالبون بوضع مناهج دراسية تقدم الأصول اللغوية للطالب في مختلف مراحله التعليمية، بيد أن سيدهم يرى أن هذه الفكرة “غير مجدية في عالمنا المعاصر”.

ويفسر قائلا: “فكرة وضع منهج دراسي إلزامي لتعلم القبطية في المدارس فكرة ليست عملية، لأن الكثير من الناس قد لا يرغبون في تعلمها أصلا، ويرون أنها غير مهمة وغير مفيدة عمليا في حياتهم، فلماذا نفرض تعلمها على الجميع؟ الأفضل أن تكون العملية التعليمية نابعة من رغبة الشخص لتحقيق أفضل نتائج”.

ويضيف: “هذا ما دفعني إلى تخصيص صفحة على يوتيوب ووضع فيديوهات تعليمية للغة القبطية يلجأ إليه كل من يرغب في تعلمها، حسب الوقت الذي يناسبه، كما شجعتني تعليقات كثيرين من المتعلمين أكدوا فيها على نجاح تجربتهم في تعلم القبطية التي كانوا يجهلونها تماما”.

“أصل اللغة القبطية”

تعد اللغة القبطية، التي لاتزال تستخدم حتى الآن في طقوس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وصلواتها وألحانها، الطور الرابع والأخير من أطوار الكتابة المصرية القديمة، التي تتألف من الهيروغليفية (التي استخدمها المصريون القدماء كخط للكتابة المقدسة في الأغراض الدينية في المعابد والمقابر والبرديات)، والهيراطيقية (وهي كتابة مبسطة نسبيا للهيروغليفية واستُخدمت في المكاتبات الرسمية والخدمات الدينية أيضا)، ثم الديموطيقية (وهي كتابة شعبية عامية مبسطة للغاية لما سبق).

ويقول العالم المصري عبد الحليم نور الدين، أستاذ اللغة المصرية القديمة بجامعة القاهرة، في دراسته “اللغة المصرية القديمة: الخط القبطي (اللهجة الصعيدية)” إن القبطية هي “نتاج الفكر الإنساني المصري القديم في مجال اللغة والكتابة، وهي خلاصة رحلة طويلة من التطوير والتحديث للخطوط المصرية القديمة”.

ويضيف: “استطاع المصري تطويع هذه الخطوط وفق حاجته من جهة، ووفق التطور الطبيعي للغة ذاتها من جهة أخرى، محافظا – قدر الإمكان – على أساسيات اللغة والخط من حيث القيم الصوتية، والقواعد الأجرومية، مع عدم الإخلال بقدرة هذه الخطوط على توصيل المعاني للمتلقين، بحيث لا يجد المتعامل معها صعوبات في القراءة أو الفهم”.

ويقول نور الدين في دراسته إن اللغة القبطية: “تنحدر من اللغة المصرية القديمة في مرحلتها المتأخرة مباشرة، أي كما كان المصريون يتحدثونها منذ النصف الثاني من عصر الأسرة الـ 18 بالدولة الحديثة (في حدود القرنين الـ 15 والـ 14 قبل الميلاد) وحتى عصر الأسرة الـ 25”.

ويلفت إلى أن تلك المرحلة المعروفة بالقبطية “بدأت بشكل واضح وجلي منذ أواخر القرن الثاني الميلادي، وانتهت رسميا – وليس فعليا – بدخول الإسلام مصر عام 641 ميلاديا، حيث بدأت تحل محلها بالتدريج اللغة العربية، وإن استمرا معا لفترة طويلة”.

بيد أن العالم الفرنسي، ماريوس شين، يسجل رأيا له يخالف الآراء الشائعة، في مقال عن اللغة الوطنية الشعبية لمصر القديمة، نُشر في المجلد الثالث عشر لمجلة جمعية الآثار القبطية، ننقله عن دراسة متخصصة في قواعد القبطية، للعالم بنتلي لايتون، أستاذ حضارات ولغات الشرق الأدنى بجامعة يل، مترجمة بعنوان “الفريد في شرح قواعد اللغة القبطية بلسان أهل الصعيد”، يؤكد فيه شين على أن اللغة المصرية القديمة واللغة القبطية، كانتا متعاصرتين وموجودتين معا منذ أقدم العصور.

ويقدم دراسة مستفيضة لقواعد اللغتين يُستخلص منها أن اللغة المصرية القديمة لم تكن لغة تخاطب، وإنما هي مأخوذة عن القبطية – باعتبار القبطية هي الأصل – وقد صيغت بحيث يقتصر استخدامها من جانب الكهنة والكتبة في الكتابة فقط، أي أن اللغة المصرية القديمة لغة صاغها بعض المصريين الناطقين بالقبطية لهدف الكتابة فقط، وظلت معرفتها محصورة في دائرة الكتبة وحدهم دون عامة الشعب.

كما يمكن رصد أصول القبطية متشعبة في عصر الأسرات المصرية القديمة، من خلال مئات المفردات القبطية التي استعملها المصريون في التعبير عن حاجة الفرد في حياته اليومية من مأكل وملبس ومشرب، وما إلى ذلك من مرافق الزراعة وغيرها، وترجع أصولها جميعا إلى اللغة المصرية القديمة، كما أن أصول قواعد اللغة القبطية، كأدوات التذكير والتأنيث والضمائر، ترجع إلى قواعد اللغة المصرية القديمة.

“القبطية لغة حية”

تقول لارا ضايف، صحفية وإحدى المهتمين بدراسة اللغة القبطية عن بُعد، في حديث لبي بي سي، إن تعلم اللغة عموما لم يعد من الصعب مقارنة بسنوات سابقة، بفضل ما هو متاح حاليا من أدوات تكنولوجية تسهم في تعلم لغات حديثة أو قديمة مثل القبطية، التي لا يزال يردد منها المصريون العديد من كلماتها في محادثاتهم اليومية الدارجة.

وتضيف: “اللغة القبطية ليست لغة ميتة أو غريبة عن اللسان المصري، إنها لغة حية بالفعل، فكل من يتعلمها ولو بقدر بسيط، سرعان ما يكتشف أنه يردد كلماتها بالوراثة في حواراته اليومية، وهذا ما يكسبها بُعدا نابضا بالحياة بعيدا عن الجمود”.

وتلفت لارا إلى أن الأجهزة الحديثة، مثل الهواتف الذكية على سبيل المثال: “تلعب دورا إيجابيا في الوقت الراهن في تعلم اللغة القبطية، التي أصبح لها العديد من التطبيقات والقواميس والمواقع الموثوق بها، التي يسهل على المتعلم الاستعانة بها بلا جهد أو تكاليف تُذكر، فضلا عن إمكانية التواصل في أي وقت مع المتخصصين في اللغة القبطية للرد على بعض التساؤلات من خلال مجموعات دراسية على فيسبوك أو واتسآب تُخصص لهذا الغرض”.

وتقول: “أصبح تعلم اللغات القديمة، التي كانت حكرا على المتخصصين، متاحة للجميع حاليا وبسهولة، وفقط أختار الدورة التدريبية التي تناسبني على منصات الإنترنت مع بعض الالتزام الشخصي لتحقيق نتائج جيدة”.

وتضيف لارا أنه في ظل ما نشهده من حرص كثيرين على تعلم لغات أجنبية، وهو أمر طبيعي في عالمنا المعاصر “يحرص كثير من الآباء على تعليم أطفالهم اللغة القبطية في الكنائس والمؤسسات المعنية بذلك، والتي بدورها تقدم الخدمة بالمجان بهدف استمرار حفاظ المصريين على هويتهم ولغتهم القبطية”.

“لماذا تُكتب القبطية بحروف يونانية؟”

استعارت اللغة القبطية الأبجدية اليونانية مع إضافة بعض الرموز من الخط الديموطيقي، وهي سبعة رموز أو حروف صوتية شائعة في اللسان المصري القديم، وانحسر استخدامها في المرحلة الأولى على كتابة بعض الأسماء، وأفضل مثال على ذلك بردية “هايدلبرغ”، وهي قائمة من الأسماء اليونانية مع المقابل المصري، وهي كتابات من العصر البطلمي، ولا نعلم هل كاتب النص يوناني أم مصري، لكن ربما سبقت هذه الوثيقة محاولات أخرى لم تصل إلينا.

ويلفت يوحنا نسيم يوسف، أستاذ القبطيات بالجامعة الكاثوليكية بأستراليا في دراسته “مقدمة في علوم الدراسات القبطية” إلى وجود نص في نقوش تعود إلى عام 202-201 قبل الميلاد بالحروف اليونانية عن الملك خر-أون-نفر، ويضيف أن “القبطية القديمة ظهرت في نصوص سحرية ونصوص فلكية وثنية، وتعود هذه النصوص إلى القرون الأولى (وهي وثائق لا علاقة لها بالمسيحية)”.

كما حفظ التاريخ كتابات قبطية قديمة تعود لعصر لم يكن قد أعتُرف فيه بعد بالمسيحية كدين رسمي للبلاد، رغم دخول المسيحية مصر على يد القديس مرقس عام 54 ميلاديا أيام حكم الإمبراطور الروماني نيرون، ومن أشهر تلك الكتابات: بردية طبعها العالم “غريفث”، ونص آخر محفوظ في متحف اللوفر بباريس نشره العالم “إرمان”، والنصان يتناولان موضوعات ذات صلة بالسحر والفلك، ويشتملان على ترتيل إلى المعبودات المصرية القديمة “أوزير” و”إنبو” و”رع” و”إيزة”.

كما عُثر، غير هذه الكتابات، في أخميم في صعيد مصر، على مومياوات تضم بطاقات مكتوبة بالقبطية يرجع تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي، وبعضها مؤرخ بالعام الرابع الميلادي خلال فترة حكم الإمبراطور الروماني هادريان (117-138 ميلاديا) ونشرها العالم “جورج شتيندورف”.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments