“أيها الإله الأوحد، الذي لا شبيه له، خلقت الدنيا كما شئت عندما كنت وحدك، والناس والماشية الكبيرة والصغيرة وكل ما على الأرض يسعى على قدميه، وكل ما يرتفع (في السماء) ويطير بأجنحته”، مقتطف من تراتيل أخناتون التي تمثل نموذجا لنصوص دينية عديدة تركها المصريون القدماء، أسهمت في تسليط الضوء على المضمون الفكري واللغوي لفلسفة الفكر الديني في البيئة المصرية قديما بكل أبعادها الحضارية والتاريخية والإنسانية والروحية قبل ظهور الأديان السماوية بآلاف السنين.
ولا تزال الديانة المصرية مصدر حيرة لعلماء تاريخ مصر القديم نظرا للطبيعة المعقدة والمتشابكة لتكوينها الفكري، الذي امتزجت فيه الأسطورة بالرؤية الفلسفية في ظل متغيرات تاريخية وسياسية امتدت وتشعبت على مدار عصور، الأمر الذي ترك أثره في بنيانها، وجعل فهم هذا الفكر الديني يتسم بطابع فلسفي شديد التعقيد.
كان اعتقاد المصري قديما في وجود “قوة إلهية” كلية القدرة عنصرا أساسيا في فكره الديني، وقد أبرز بوضوح مفهوم “وحدانية الإله”، وسجّله مراراً في نصوص أدب الحكمة. إنه “إله” بدون مواصفات يتمتع بقدرات لا نهائية، ترسم بعض ملامحه مقتطفات مثل: “ليست إرادة الإنسان هي التي تتحقق، بل تدبير الإله (تعاليم بتاح حوتب)”، “كل من يفعل هكذا، سيمجد الإله اسمه (تعاليم آني)”، “الإنسان طين وقش، وصانعه هو الإله (تعاليم امنمؤوبي)”، “أدخلت السرور على قلب الإله لأني فعلت ما يجب (تعاليم من عصر الدولة الوسطى)”.
آمن المصري القديم بمجموعة من العقائد أبرزت تصوراته وتفسيراته للأشياء في الدنيا والآخرة، وهي تتعلق بتلك الصورة التي لابد أن يكون عليها الإنسان في حياته الدنيا، والتي بناء عليها تحدد مصيره في عالم الآخرة، ولذا، دأب على البحث عن حقيقة ما حوله من أسرار الكون وكيفية خلق الإنسان والأرض وبدء الحياة عليها، فضلا عن كونه أول من آمن بالبعث والخلود بعد الموت في حضارات الشرق القديم.
وبنفس المنطق تصوّر مصدرا للخير في بعض الحيوانات (كالأبقار)، وتصوّر مصدرا للشر في بعضها الآخر (كالثعابين والعقارب)، وأظهر تبجيلا لبعض الطيور (كالنسور والصقور)، ومن هذا المنطلق بزغت فكرة “التقديس”، التي كانت لبنة أولى في رسوخ العقيدة في مصر القديمة على مدى عصورها التاريخية.
لكن حدث خلط لدى كثيرين دفعهم إلى طرح سؤال عن سبب “عبادة” المصري القديم للحيوانات والطيور وغيرها، وعما إذا كان قد عبدها لذواتها، أم لأنها تمثل قوى خفية تفوق قدرته الفكرية المحدودة في أولى مراحل حياته على أرض مصر؟
يجيب العالم المصري عبد الحليم نور الدين، أستاذ تاريخ مصر القديم، في دراسته “المعبودات” عن هذا السؤال قائلا إن الشواهد تشير إلى أن “المصري لم يعبد هذه الموجودات لذاتها، وإنما على اعتبار أن القوى الخفية التي يدركها متمثلة فيها، وبكلمات أخرى فإن الموجودات التي عبدها المصري هي بمثابة رموز أرضية لهذه القوى الخفية التي لا تعيش معه على الأرض”.
وفي ظل تطور الفكر الديني تصور المصري “إلها خاصا” لكل ظاهرة من الظواهر، واختلف مسمى هذا الإله أحيانا بين المناطق، كما أن إيمان المصري بوجود حياة أخرى بعد الموت، فضلا عن خوفه من بعض الظواهر وحبه لظواهر أخرى، أدى إلى تنوع وتشعب مسمياته للرموز المقدسة التي تمثل الإله الأكبر.
ويقودنا ذلك إلى سؤال: هل عرف المصريون القدماء كلمة محددة للديانة، أو هل ما كانوا يمارسونه ويفعلونه هو ما نطلق عليه الآن “دين” أو “عقيدة”؟
يقول العالم رندل كلارك في دراسته “الرمز والأسطورة في مصر القديمة” إن المصريين القدماء “لم يعرفوا كلمة محددة للديانة، إذ لم يخطر ببالهم أن يكون الدين شيئا منفصلا عن الحياة، بل هو الحياة ذاتها بطقوسه وأساطيره، وما المعابد إلا مراكز تنبثق منها قوة الحياة، التي تستمر بشعائرها وطقوسها، فلم يكن ثمة انفصال بين الدين والدولة، فرأس الدولة – الملك – كبير للكهنة”.
ويضيف العالم الفرنسي بيير مونتيه في دراسته “الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة” تأكيدا على نظرة المصريين للمعابد بوصفها مصدرا للحياة قائلا: “كان اهتمام المصريين بالآلهة والموتى يفوق إلى حد بعيد اهتمامهم بأنفسهم. وكانوا إذا شرعوا في تشييد معبد في مكان ما جلبوا له أشد أنواع الأحجار صلابة وأفضل أنواع المعادن والأحجار الكريمة وأجود أنواع الأخشاب، حتى لا تضارعه مبان أخرى في جماله وصلابته”.
ويقودنا العالم الفرنسي فرانسوا دوما في دراسته “حضارة مصر الفرعونية” إلى أن المصري قديما “أطلق لقب (نثر) على الإله، وكان يعرف أن هذه الأسماء الفردية لم تكن سوى مسميات متخصصة تعبر عن صفات قوة إلهية واحدة”.
ويطرح دوما سؤالا: “كيف كان يفكر البسطاء من أبناء الشعب وسواده ممَن لم يجدوا وقتا لإعمال العقل؟”، ويجيب أن “إيمانهم بتعدد الآلهة أو الأرباب، كان حقيقيا، أو هي بالنسبة لهم كيانات شخصية أو قدرات شخصية أو قوى فعالة ومؤثرة خاضعة لقوة عليا، ومع هذا كانوا ينسبون إليها صفات عديدة كانت تطلق في الأصل على هذه القوة العليا الخفية، لدرجة أنه يمكن إطلاق نفس هذه الصفات على معبودهم المحلي”.
“الإله الواحد الأوحد”
لم يتفق علماء الدراسات المصرية، لاسيما علماء اللغة المصرية القديمة، على معنى محدد وواضح لكلمة “نثر”، وهي الكلمة المفتاح في تحديد تصوّر المصري لفكرة “الإله المعبود”، وهو ما دفع العالم المصري رمضان عبده علي، أستاذ علم دراسات تاريخ مصر القديم، في دراسته “حضارة مصر القديمة” إلى تحديد ثلاثة مفاهيم رئيسية للكلمة ودلالتها في الفكر الديني قديما بناء على مراجعة لغوية للعديد من النصوص الدينية.
أول هذه المفاهيم أن كلمة “نثر” تشير إلى المعبود (أو الإله المطلق) و(الإله الخالق) في فكر أهل التوحيد. إنه المعبود المطلق، غير المرئي، والمبهم، ولا يحده مكان ولا زمان، أي لا يمكن تحديد شكله وسماته ولم ترتبط عبادته بمكان محدد.
ويقول عبده علي في دراسته: “برز هذا المفهوم في بعض نصوص الحكم والنصوص الدينية الخاصة بأناشيد الوحدانية والنصوص الخاصة بالتراجم الشخصية. وكان هذا المعبود يتمتع بتقدير وتقديس كبيرين، ومهابة”.
ويلفت الفرنسي فرانسوا دوما في دراسته المتخصصة بعنوان “آلهة مصر” إلى أنه “كلما وجدنا نصوصا أكثر صراحة تتيح لنا أن نزيد معرفة بلاهوت أحد الآلهة المحليين ممن اكتسبوا بعض الأهمية، وجدنا أنها تطلق عليه صفة (الأوحد)”.
ويضيف: “يوجد نوع من الأدب هو أدب الوصايا الأخلاقية (الحكمة) التي يرجع أقدمها إلى الدولة القديمة، أبدى العالم دريتون منذ زمن بعيد رأيا بأن تلك التعاليم لم تذكر على الإطلاق، إذا صح القول، أسماء (جماعة الآلهة)، ولكنها تحدثت على الدوام عن الإله الواحد، بوجه عام. فكيف يجب فهم هذا اللفظ؟ أجاب دريتون بأن المقصود هو (الله) وذلك في مذهب التوحيد عند الحكماء”.
المفهوم الثاني، بحسب رأي عبده علي، أن الكلمة تشير أيضا إلى المعبودات (أو الآلهة أو الأرباب) بصفة عامة، والتي أطلقوا عليها عدة أسماء وألقاب وصفات واتخذوا لها أشكالا وصورا ورموزا واسبغوا عليها مختلف الأدوار في حياة البشر والخليقة. أما المفهوم الثالث أن الكلمة كانت تشير أيضا إلى صفة القداسة بوجه عام، وكانت تُطلق على بعض الملوك وبعض الأشخاص والرموز وبعض الأماكن، وهي تسبغ على ما تُطلق عليه معاني القداسة والتبجيل والاحترام.
ارتبط مفهوم “الإله المطلق” و”الخالق” غير المرئي في نصوص أُطلق عليها نصوص الوحدانية، وهي نصوص مهمة موجهة إلى “رموز مقدسة” كلها كناية عن الخالق، بأدوار هامة في عملية الخلق والخليقة، مثل “رع” و”آتوم” و”خبري” و”آتون” و”آمون” و”خنوم” و”بتاح” و”نيت” و”محت-ورت”، وجميعها تتشابه في القدرات التي أُعطيت لها.
ويقول عبده علي في دراسته إن هذه المعبودات “ترمز إلى قدرات وأعمال الخالق الواحد وإن اختلفت في الأسماء والصور والأشكال، ويتضح هذا من الأسماء والنعوت التي أُطلقت عليها مثال: (الموجود (خِبْري) “الذي جاء إلى الوجود من نفسه”، “والإله الأكبر الذي جاء إلى الوجود من نفسه”، و”الصانع لنفسه لا أحد يعرف أشكاله”، و”الأول الذي جاء في الأصل في الوجود”، و”الذي جاء إلى الوجود في البداية”.
وفيما يلي بعض النصوص الدالة على مفهوم الإله الواحد المطلق أو المجرد أو “المعبود الكبير المبهم” غير المرئي، خالق كل شيء، كما وردت في العديد من النصوص الدينية المصرية القديمة من عدة مصادر.
يورد عبده علي في دراسته “تاريخ مصر القديم” نصا من تعاليم موجهة إلى الوزير كايجمني من الأسرة الرابعة: “لا تتفاخر بقوتك بين أقرانك في السن، كن على حذر من كل إنسان حتى من نفسك، إن الإنسان لا يدري ماذا سيحدث أو ما الذي سيفعله الإله عندما ينزل عقابه”.
ويضيف من تعاليم بتاح حوتب من الأسرة الخامسة : “إن ما أراده الإله سوف يتحقق، إذا عزمت أن تحيا بالقناعة أتاك ما قدّره لك، والرزق مرتب بإرادة الإله، والجاهل من يعترض على إرادته”.
وتضيف لالويت نصا آخر في نفس الدراسة :”لا تشيع الرهبة بين الناس وإلا سيعاقبك الإله بالمثل، إذا ظن إنسان أنه قد يعيش بهذا الأسلوب فسوف يُحرم فمه من الخبز. لا تسمح بأن يظهر الخوف من الناس. فمشيئة الإله هي التي لا بد أن تظهر”.
وتورد نصا من تعاليم خيتي الثالث لابنه مري-كا-رع من الأسرة العاشرة: “أما المتمرد فسوف تنكشف مآربه لأن الإله يعرف الإنسان صاحب القلب الخسيس، وينزل الإله عقوبة الدم بالأفعال السيئة”.
ويورد فرانسوا دوما في دراسته “حضارة مصر الفرعونية” نصا يقول :”عندما لا تتحقق تكهنات البشر فأمر الإله هو الذي ينفذ. لا تمسك يدك عن البذل من ثروتك، فما تملكه إنما هو هبة من الإله”.
ونضيف نصا نقله عبده علي في دراسته “حضارة مصر القديمة” سجله العالم المصري أحمد فخري في دراسته بعنوان “مصر الفرعونية” موجها كلامه للملك :”أحكم الناس كأنهم رعايا الإله، لأنه خلق السموات والأرض كما يريدها الناس، إنهم صوره الشخصية التي صدرت عنه، وهو يصعد إلى السماء طبقا لرغباتهم وطبقا لطلبهم، فهو يخلق الفجر، ويبحر لكي يذهب إلى زيارتهم، وعندما يبكون فهو يسمع بكاءهم، وهو الذي خلق لهم الحشائش، والماشية، والطيور، والأسماك لكي يغذيهم، إنه يعرف كل واحد باسمه”.
ترنيمة أخناتون ونصوص التوحيد