كيف وُلدت مصطلحات اليمين واليسار؟ وماذا تعني؟

“أن تكون يمينياً يعني أنك تريد عظمة فرنسا. أن تكون يسارياً يعني أنك تريد سعادة الفرنسيين”. كانت هذه الإجابة التي يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت – سبونفيل إن والده قدمها له في سنٍّ مبكرة عندما سأله عما يعنيه كلّ من اليمين واليسار.

بهذه العبارة اختصر الرجل الانقسام الأيديولوجي الذي ولد في فرنسا إبّان الثورة الفرنسية عام 1789، ثم صُدّر إلى الحياة السياسية في أوروبا وفي معظم أنحاء العالم حتى يومنا هذا.

وبحسب القصة الشائعة، فإنّ اعتماد مصطلحي “اليمين واليسار” للتصنيف على أساس الميل السياسي، جاء من تقسيم المقاعد في الجمعية الوطنية أو البرلمان الفرنسي، إذ تحرّك أنصار الملك والنظام تدريجياً صوب يمين الرئيس، فيما انتقل أنصار الحرية والمساواة إلى اليسار.

ويجادل بأن المعنى السياسي الحقيقي والأثر الاجتماعي الأوسع لهذا التفرقة اليسارية – اليمينية لم ينشأ فقط من أحداث الثورة الفرنسية، أو ترتيب مقاعد البرلمان الفرنسي بحسب الموقف من الملكية، بل من خلال تطور الأيديولوجيات السياسية، وبخاصة ظهور الحركات الاشتراكية.

ينتقد غوشيه تبسيط السرد التاريخي، مشيراً إلى أن استعارة اليسار واليمين اكتسبت أهميتها السياسية الكبيرة وعالميتها مع نمو الاشتراكية الديمقراطية. ويقول إن هذا التصنيف الذي كان ينطبق في البداية على ترتيبات الجلوس البرلمانية، أصبح في النهاية يرمز إلى صراعات أيديولوجية أعمق حول المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتنظيم المجتمع.

في هذا السياق، يلاحظ كتاب “اليسار واليمين” لمؤلفَيه آلان نويل وجان فيليب تيريان أنه في اليونان القديمة مثلاً، كانت اليد اليمنى مرتبطة بالذكورة، بالخط المستقيم، بالنور وبالخير، بينما كانت اليد اليسرى تشير إلى صورة المرأة، وكل ما هو معوجّ، وإلى الظلام والشر. ثم نجد في التقاليد اليهودية، ثم المسيحية والإسلامية، أنّ “المختارين يكونون على يمين الله والملعونين على يساره”. كما يعتبر البوذيون أنه بعد الموت، نقف أمام مفترق طرق، وأن الطريق اليمين هو الذي يؤدي إلى النيرفانا أو حالة الخلاص.

وينقل الكتاب عن عالم الاجتماع روبرت هيرتز أن “اليد اليمنى شكّلت دائماً رمزاً ونموذجاً للأرستقراطية فيما تمثل اليد اليسرى العامة والشعب”. ويلفت المؤلفان إلى أن لغات العالم كافة تنقل الرسالة نفسها، حيث أن المصطلحات التي تشير إلى اليمين ترتبط عموماً بصفات حميدة والمصطلحات التي تشير إلى اليسار ترتبط بالعيوب. في اللاتينية على سبيل المثال، الكلمة التي تعني اليمين هي dexter، والتي جاء منها مصطلحdexterity أي المهارة، أما الكلمة التي تعني اليسار فهي sinister التي باتت تشير إلى الشرّ والأذى.

كذلك، في اللغة المحكية في مصر على سبيل المثال نجد عبارة “السكّة الشمال” أي الطريق إلى اليسار والتي ترتبط بالرذائل والأفعال المكروهة اجتماعياً.

انقسامٌ متحرّك

على الرغم من كون اليسار معروف تاريخياً بتبنّيه قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتقدّم، فيما يرتبط اليمين بقيم المحافظة والرجعية وعدم إيلاء المساواة أهمية كبرى، يظهر تاريخ نشأة هذا الانقسام في فرنسا أنه لطالما كان انقساماً سلساً أو مرناً أو متحرّكاً (سائلاً بالتعبير الحرفي أي بعكس الجامد).

تاريخياً، تبادل المعسكران العديد من القيم والأدوار، كما أن الحركة السياسة جعلت الجهات والتنظيمات تتبدل، فمن كان يُصنَّف يسارياً في مرحلة ما اقترب شيئاً فشيئاً من اليمين وأحياناً بالعكس.

في فرنسا كما في أماكن أخرى، تحت النظام القديم قبل الثورة، لم تكن الاستعارة السياسية الأساسية أفقية بل عمودية، أي بين من هم “فوق” ومن هم “تحت”.

ويقول غوشيه إنه خلال معظم القرن التاسع عشر، بقي التمييز بين اليسار واليمين محصوراً في مؤسسة واحدة وفي بلد واحد فقط. وكان يخص حياة الجمعية الوطنية الفرنسية وجزءاً من المفردات التقنية للشؤون البرلمانية فقط.

وعند تبنّي حقّ الاقتراع العام للذكور في عام 1848، كان السياسيون والناخبون الفرنسيون يتحدثّون بدلاً من ذلك عن المعارضة الحادة بين الجمهوريين والمحافظين، أو بين “الحمر والبيض”، وهما الفريقان اللذان انقسم بينهما المدافعون عن الثورة والمعارضون لها.

كان هذا الانقسام مشابهاً جداً للذي كان موجوداً بين اليسار واليمين في الجمعية الوطنية الفرنسية، لكن الاستعارة المكانية لم تكن قد انتقلت إلى الاستخدام العام، ولم تكن عالمية بعد.

ومثّل الاشتراكيون طبقة عمالية متزايدة التنظيم تشارك في حركة أممية، وباتوا يشكلون تحديًا للجمهوريين الذين كانوا متمسكين بترك الأمور على حالها في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وبدءاً من عام 1893، حققت الأحزاب الاشتراكية مكاسب انتخابية وسيطرت تدريجياً على اليسار في الجمعية الوطنية، مما دفع الجمهوريين إلى اليمين. وانضوى في كلا المعسكرين نواب يؤمنون بالجمهورية ويعتبرون أنفسهم من اليسار، ولكن الجمهوريين القدامى كانوا مضطرين إلى أن يصبحوا “رجال الوسط الذين أجبرتهم الظروف على الجلوس إلى اليمين”.

عندئذٍ، اكتسب انقسام اليسار واليمين المعنى الذي نعرفه اليوم.

والأهم من ذلك، أن استعارة اليسار واليمين تجاوزت حدود الساحة البرلمانية لتنتشر إلى المجتمع الفرنسي ككل، “وتحدّد معسكرين سيقاومان الزمن ويشكلان ثقافتين سياسيتين متعارضتين”، بحسب نويل وتيريان.

نظرتان مختلفتان إلى العالم والزمن

يقول غوشيه إن استمرارية الانقسام بين اليسار واليمين يكمن إلى حد كبير في البُعد الأنثروبولوجي والعاطفي، إذ أن واقع الانقسام – خصوصاً في عصرنا هذا – لا تحدده برامج سياسية، بل هو أقرب إلى العواطف.

فبالنسبة لشخص يشعر بأنه ينتمي لليمين اليوم، فإن اليسار دائماً مكوّن من “السذّج” الذين لا يعرفون ما هي الحقيقة و”يعيشون في الغيوم”. وبالنسبة لشخص ذي ميل يساري، فإن اليمين دائماً “مأهول بالأوغاد”، أو الأشخاص غير الأخلاقيين الذين يتقبّلون كل ما هو سيّئ في العالم بحجة أن “هذا هو الحال”، في حين أن الموقف الشرعي الوحيد بالنسبة لليساريين يجب أن يكون الثورة.

من جهته، وضع الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل أساسيات للتفرقة بين المعسكرين، على الرغم من أن الواقع الحالي أظهر تعقيدات وتداخلات تخطت تلك الفروقات الأساسية.

ويرى أن “الفارق التوجيهي” بين الإثنين هو أن اليسار يريد أن يكون متقدماً، إذ إن الحاضر يمثّل بالنسبة له مصدراً للملل أو خيبةً لآماله؛ والماضي يثقل عليه: فهو يفضل أن يمحوه، وأن يقوم، كما يقول نشيد الأممية، قلب “صفحة بيضاء”، أي البدء من جديد.

ويلاحظ أن الجهتين ليس لديهما العلاقة نفسها مع الزمن، ولا العلاقة نفسها مع الواقع أو مع الخيال. يقول إن “اليسار يميل أحياناً، بطريقة قد تكون خطيرة، نحو اليوتوبيا. بينما يميل اليمين أحياناً، بطريقة قاسية، نحو الواقعية. اليسار أكثر مثالية، بينما اليمين أكثر اهتماماً بالفعالية”.

ويضيف أن ذلك لا يمنع الرجل اليساري من أن يكون واقعياً أو أن يسعى إلى الفعالية، ولا يمنع الرجل اليميني من أن يمتلك أهدافاً سامية، و”لكنهما يخاطران في كلتا الحالتين بإيجاد صعوبة كبيرة في إقناع معسكراتهم الخاصة”.

الفرق الثالث بالنسبة للفيلسوف الفرنسي هو بشكل أساسي سياسي، إذ أن اليسار يريد أن يكون إلى جانب الشعب، مع منظماته (الأحزاب، النقابات، الجمعيات)، وتمثيله (البرلمان). فيما يكون اليمين، من دون أن يحتقر الشعب بالضرورة، “أكثر تعلّقاً بالوطن، والوطنية، وعبادة الأرض أو الزعيم”.

ويشير كونت-سبونفيل إلى أن اليسار يرفض الرأسمالية أو يتقبلها على مضض، ويثق بالدولة أكثر من السوق، ويدعم التأميم بينما يتأسف على الخصخصة. على النقيض، يثق اليمين بالسوق أكثر من الدولة ويدعم الرأسمالية بقوة، ويفضّل الخصخصة، ويدعم التأميم عند الضرورة فقط. بشكل عام، اليسار يميل إلى دولة الرفاهية والتخطيط، بينما يميل اليمين إلى السوق والمنافسة.

وعلى الرغم من أن بعض الأفراد في اليسار يمكن أن يكونوا ليبراليين اقتصادياً، وبعض الأفراد في اليمين يمكن أن يدعموا دور الدولة، يبقى الفرق الأساسي في توجهاتهم الاقتصادية واضحاً.

الفروقات الأخيرة بين اليسار واليمين تشمل القيم والسلوكيات. اليسار يركز على المساواة، الحرية الأخلاقية، الدفاع عن الضعفاء، والتضامن، بينما اليمين يركز على نجاح الفرد، الجدارة، الحرية الاقتصادية، الدين، والوطنية. العدالة عند اليسار تعني الإنصاف والمساواة الفعلية، بينما عند اليمين تعني المكافأة على المزايا الفردية.

ويذكر كونت-سبونفيل أن الفروقات الطبقية لا تزال تلعب دوراً كبيراً في الانتماء إلى كلا المعسكرين، حيث اليسار يمثل الطبقات الشعبية. في المقابل، اليمين يجد دعمه بشكل أساسي بين المستقلين مثل الفلاحين وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين يمتلكون أدوات عملهم. وعلى الرغم من وجود تداخل بين الطبقات، تظل هذه الحدود واضحة. اليسار يجذب الطبقات الفقيرة والعمال، بينما اليمين يجد دعمه بين البرجوازية والمديرين التنفيذيين وأصحاب المهن الحرة.

غير أن عدداً من المفكرين لاحظوا في السنوات الأخيرة تغيّراً في هذا المؤشر الاجتماعي، إذ يعيدون صعود اليمين المتطرف في أوروبا إلى غضب الطبقات الفقيرة والمهمشين من ضحايا الاقتصاد النيوليبرالي في المدن الكبرى، والذين يشعرون بأنهم متروكون في نظام الجدارة الذي يزداد شراسة.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments