كسوف الشمس: كيف يمكن أن يؤثر على حالتنا النفسية؟

في يوم الـ 28 من مايو/أيار سنة 585 قبل الميلاد، وعلى ما يُعرف اليوم باسم الأناضول بتركيا، كانت قد مرّت ست سنوات من الحرب بين الميديين (شعب قديم كان يسكن فيما يعرف اليوم بإيران) من جانب، والليديين (مملكة كانت إلى الجنوب مما يعرف اليوم باسم تركيا) من جانب آخر.

وبحسب المؤرخ اليوناني هيرودوت لم تكن هناك في الأفق علامات على قُرب انتهاء تلك الحرب، ولم يكن أي من الطرفين قد حقق انتصارات ملموسة على حساب الطرف الآخر.

ولكن كسوفا للشمس هو الذي وضع نهاية لتلك الحرب الدامية.

يقول هيرودوت: “وبينما كانت المعارك محتدمة، حدث تغيّر مفاجئ حيث انقلب النهار فجأة إلى ليل. ولمّا لاحظ طرفا القتال ذلك توقفا، وأظهر كلاهما جنوحاً إلى السِلم”.

وقام شون غولدي، باحث علم النفس بجامعة هوبكنز، بتقصّي الآثار النفسية لحادث كسوف الشمس الكلي الذي وقع في سنة 2017.

ويعرف الذهول بأنه شعور بالتعجب والدهشة يثيره إدراكنا لمدى ضخامة شيء نشعر حياله بالضآلة في أنفسنا.

تقول جينيفر ستيلار، باحثة علم النفس بجامعة تورنتو، إن الذهول “شعور ينتاب المرء لدى مجابهته شيئا ما شديد الضخامة على نحو يفوق قدرته على الاستيعاب”.

ويمكن لأمثال هذه المواقف أن تسفر عن تغيير في حياة مَن يشهدونها، حسبما يرى داكر كيلتنر، باحث علم النفس بجامعة كاليفورنيا، في كتابه بعنوان “الذهول”.

يقول كيلتنر إن الذهول “شعور بالتعجب باستطاعته أن يُسكت صوت النفس أو ‘الأنا’ الداخلي المتذمّر والناقد والمستبد والواعي … ويدفعنا هذا الشعور إلى تجميع شتاتنا ومحاولة التساؤل من أجل فهم أعمق لأنساق الحياة”.

وتعتبر هذه النتيجة التي خلص إليها كيلتنر وزملاؤه، نتيجة بالغة الأهمية، وقد جمعوا أدلة كثيرة داعمة لتلك النتيجة.

أما النصف المتبقي من عينة المستجيبين للدراسة فقد طلب منهم الباحثون أن يشاهدوا مقطع فيديو يساعد على الاسترخاء وتشرح مادته كيفية بناء سياج.

بعد ذلك، طلب الباحثون من أشخاص الفئتين أن يكتبوا في دقيقتين عن نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم.

وكما افترض الباحثون، أظهرت كتابات الفئة التي شاهدت الفيديو الأول المتعلق بالكون الفسيح ميلاً إلى التواضع فيما يتعلق بنقاط القوى.

وفي دراسة أخرى للفريق البحثي ذاته، طلب الباحثون من ثُلث عيّنة المستجيبين أن يتذكروا وقتاً شعروا فيه بالذهول. فيما طلب الباحثون من ثُلث آخر من العيّنة أن يتذكروا وقتاً عاشوا فيه دُعابة مضحكة. بينما الثلث المتبقي من عينة المستجيبين، فقد طلب منهم الباحثون أن يتذكروا وقتاً قضوه في رحلة لشراء حاجاتهم من محلات البقالة دون أن تقع لهم في تلك الرحلة أحداث تستحق الذكر.

بعد ذلك طلب الباحثون من الفئات الثلاث أن يجيبوا عن سلسلة من الأسئلة تستهدف وضْع تقييم (على مقياس من 0% إلى 100%) لمدى تأثير عوامل مختلفة على منجزاتهم الحياتية – بما في تلك العوامل، مواهبُهم الخاصة أو قوى خارجية كالحظ أو القدر.

وسوف تتوقع عزيزي القارئ أن المستجيب الأكثر تواضعاً سيميل إلى ذِكر القوى الخارجية – وهذا بالضبط ما وجده الباحثون – في إجابات الفئة الأولى التي تذكرت وقتا شعرت فيه بالذهول.

وفي ذلك تقول جينيفر ستيلار، باحثة علم النفس بجامعة تورنتو: “هذا أمر مفهوم، كون أن الشعور بالذهول يحطّ من تقدير المرء لأهميته ومن نرجسيته. إن ‘الأنا’ بداخلنا تقود حواسنا وهي التي تدفعنا إلى اتخاذ القرارات، وعندما يداهمنا شعور أكبر من تلك الأنا، كذلك الشعور الذي يصيبنا بالذهول، فإنه يُذري بتلك السُلطة التي تمتلكها تلك الأنا على المرء”.

حدود ضبابية

تقول ستيلار: “عندما يتناقص شعوري بنرجسيتي، يصبح الخط الفاصل بيني وبين الآخرين ضبابيا. عندئذ يمكنني أن أرانا جميعا جزءا من كُلّ، وهو الإنسانية”.

وإلى جانب تلك الخطوط الضبابية، طلب الباحثون من المستجيبين للدراسة أن يصورّوا مدى شعورهم بالقرب من مجتمعاتهم. وقد جاءت الصور عبارة عن أزواج من الدوائر – كل زوجين عبارة عن دائرتين إحداهما تمثل المستجيب بينما الدائرة الأخرى تمثل الناس أو المجتمع من حوله.

وقد بدت الصور تشبه إلى درجة ما “مخطط فين Venn للرسم البياني”؛ حيث الدوائر المتداخلة ترمز إلى قوة الاندماج المجتمعي.

نتائج رائعة

وبقدر ما لهذه التجارب من أهمية، إلا أنها قد لا تعكس بالضرورة ردود الأفعال التلقائية للناس إزاء ظواهر طبيعية خارج المختبر – وهو ما كان يؤرق شون غولدي، باحث علم النفس بجامعة هوبكنز، عندما بدأ في إعداد رسالة الدكتوراة.

يقول غولدي: “كنت أبحث عن طريقة لدراسة الناس بينما يختبرون شيئا ما شديد الأهمية”.

وجاء الكسوف الكلي للشمس في 2017 ومعه حلّ لهذا الأرق الذي يعانيه غولدي – ذلك الاصطفاف النادر للقمر مع الشمس، والذي أثار شعورا بالذهول.

وقد دفع هذا الحدث النادر الكثيرين إلى التعبير عن مشاعرهم هذه على وسائل التواصل الاجتماعي، ما اعتُبر بدوره فرصة ممتازة لقياس ردود أفعال الناس بشكل مباشر إزاء الحدث (الكسوف الكلي للشمس).

بعد ذلك، عمد غولدي إلى تحليل الخطاب الذي ورد في منشورات المستخدمين للمنصة.

وكانت تعابير مثل “مدهش” أو “يأخذ العقل” تعدّ بديلا لتعبير “مذهل”، بينما كانت تعابير أكثر تحفظّاً مثل “ربما” و “قد يكون” تمثّل الشعور بالتواضع.

فيما استدل الباحث على الاندماج الاجتماعي عبر كلمات مثل “الرعاية” أو “التطوع”، فضلا عن كلمات دالة على العِرفان والمحبة.

وجاءت النتائج رائعة بما يكفي لإثارة التعجب في حد ذاتها. فكان الناس الواقعون في مسار الكسوف الكلي للشمس أكثر ميلا (بمعدل الضِعف تقريبا) إلى التعبير عن الذهول في تغريداتهم.

وكان من الممكن رصد ذلك بسهولة في الضمائر التي استخدمها هؤلاء الناس، حيث أقبلوا أكثر على استخدام ضمير المتكلم الجمعي “نحن” أو “نا الفاعلين”- ما يعكس خبرة جماعية وتجربة مشتركة، مقارنة بأولئك الذين لم يقعوا في مسار الكسوف الكلي للشمس.

وأكد الباحث غولدي على أن الآثار كانت قصيرة الأجل نسبيا “في مدى 24 ساعة فقط”. لكن حتى هذه الفترة القصيرة من الترابط تستحق الترحيب باعتبارها لحظة استراحة صعبة المنال وسط دوامة التوترات اليومية التي نعيشها.

وفي هذه الحقبة الزمنية من الاستقطاب والفُرقة المجتمعية، لا يزال بإمكاننا نحن البشر أن نجد أرضية مشتركة في اندهاشنا وذهولنا إزاء أُمّنا الطبيعة من حولنا، وهذا يغريك عزيزي القارئ على انتظار مشهد الكسوف الكلي للشمس والمرتقب في يوم الثامن من أبريل/نيسان الجاري.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments