دوروثي لانج… فوتوغرافية أميركية هجرت قصور الأثرياء والتحقت بالفقراء

ثلاث عدسات نسائية اقتحمن عالم الفوتوغراف منذ زمن كرفاقهن من الرجال وأثبتن قدرتهن في جميع فنون التصوير ومنها التصوير الصحافي، وتصوير الحياة العامة اليومية بالشارع، وتصوير الأحداث والمنشآت، ومن تلك الفوتوغرافيات ثلاث مصورات فوتوغرافيات من الولايات المتحدة ظهرن خلال فترات متقاربة:

1- دوروثي لانج

2- فيفيان ماير

3- مارجريت بوركي وايت

لكل منهن طريقة مختلفة في نقل ما رأته بعينها لتظهره للمشاهد كيفما يراه.

حول المسيرة المهنية للمصورة دوروثي لانج Dorothea Lange – موضوع حديثنا – التي اعتبرت أن حدثين مهمين في طفولتها كان لهما الأثر الأكبر في وجودها لبناء مستقبلها، الحدث الأول الشلل الذي أصاب قدمها اليمنى، وتقول عن هذا الحدث: «إنه شكلني وأرشدني وأمرني بنفس الوقت لكي أتمكن من النهوض بنفسي. والحدث الثاني انفصال والدي عن أمي التي لم أعرف فيها غير والدتي، مما أدى إلى إلحاق اسمي باسم والدتي وليس باسم عائلة أبي».

تلك كانت المعوقات التي لم تؤثر فيها سلباً لتحقيق حلمها، حيث إنها عند سن 18 تخرجت في الثانوية، وكان لوالدتها خطة لمستقبلها، إلا أن دوروثي أبدت رغبتها في اقتناء كاميرا فوتوغرافية، ففعلت ذلك، والتحقت بدورة تدريبية لمبادئ التصوير الفوتوغرافي وكيفية استخدام تقنية الكاميرا. استمرت في ممارسة التصوير فترة طويلة حتى أتقنت فن البورتريه، وأضافت إلى خبرتها المتواضعة خبرة واسعة بالتحاقها بدورة مع أحد رموز فن الفوتوغراف آنذاك Clarence H. White، ثم التحقت كمصورة بورتريه في نيويورك كمساعدة مصور للفنان Arnold Genthe، واكتسبت خبرة عميقة طوال فترة عملها تلك.

حوادث كبيرة ومهمة أظهرتها عدسة دوروثي بتنقلها إلى الأرياف الأميركية

في فترة لاحقة انتقلت إلى مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا، وعملت كمصورة بأحد الاستوديوهات، حيث برز اسمها كمصورة محترفة لطبقة الأثرياء في سان فرانسيسكو، حتى لمع اسمها الفني مع كبار الفنانين الفوتوغرافيين أمثال Ansel Adams وكذلك Imogen Cunningham.

نقطة تحول

وأثناء وجودها في سان فرانسيسكو، وفي أحد الشوارع الخلفية للاستوديو في عام 1929 إبان فترة الكساد العظيم الذي أصاب الولايات المتحدة الأميركية آنذاك، وهي تنظر من الشباك لترى فئة أخرى من المجتمع الأميركي الفقير غير فئة المجتمع الثري، حيث القصور والفلل، الذي تعايشت معه، شاهدت رجالاً يقفون في الطوابير طلباً للحصول على كوب من شراب ساخن في مشهد تأثرت به كثيراً، وعلى ضوئه غيرت خطها الفني إلى تصوير الحياة العامة في تلك الفترة، وهي اللوحة التي انطلقت منها، ورغم نصائح الأصدقاء لها بعدم الاقتراب لكنها تجاهلتها والتقطت الصورة المؤثرة وتمت تسميتها White Angel Breadline، حيث ظهر فيها رجل عجوز متمسكاً بكوبه المعدني بين يديه، معطياً ظهره لطابور المعونة في جو قارس، وصور أخرى تلتها تحكي بالتفصيل عما يدور في تلك الأزمة التي ولدتها مظاهر لا إنسانية بالشارع الأميركي من فقر وجوع.

عمل صحافي مؤثر

«يا عمال العالم اتحدوا واجعلوني اشتراكياً» صورة التقطتها لأحد المتظاهرين العمال ضد ما يحصل في الشارع لعظم التناقض في الشارع الأميركي، حينها اتصل بها Paul Tylor، وهو صحافي وثائقي أميركي وخبير اقتصادي وعالم اجتماعي، وتعاون معها في العديد من المشاريع الصحافية الوثائقية، وليحصل على موافقتها أيضاً بإرفاق صورة بمقالة تتحدث عن الواقع، ومن ثم حصلت على وظيفة بإحدى الصحف كمصورة لتلك الأحداث، يستخدمها في مقالاته، ومنها تلقت تدريبها في العمل الصحافي وأصبح زوجها فيما بعد.

وأثرت تلك النجاحات المتواصلة لأعمالها المؤثرة في العمل الصحافي، وانضمت أيضاً إلى إحدى المؤسسات الرسمية المعنية بإعادة التوطين، والتي سميت فيما بعد Farm security Administration (F S A) ومن أهدافها توثيق الحالات البائسة في القرى والأرياف الأميركية إبان عهد الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت.

التأثير البشري للصعوبات الاقتصادية يظهر بوضوح من خلال أعمالها

وكانت دوروثي من ضمن فريق يضم 13 مصوراً من الجنسين يجوبون أرياف وقرى الولايات المتحدة، وبالأخص ملاجئ عمال المزارع Pea – Pickers camp، وفي عام 1936 بولاية كاليفورنيا في منطقة NIPOMO استوقفها ذلك المشهد المؤلم لسيدة تدعى Florence Owens Thompson مع طفليها على ظهر مقطورة بلا إطارات، باعت إطاراتها لتأمين لقمة لأبنائها، بحديثها لها وبنظرة غير مبالية لما يحدث حولها ولها من هول الكارثة، فقد تجرعت الألم مراراً وتكراراً، حيث توفي لتلك السيدة خمسة من أبنائها من الجوع والمرض، وبقي ثلاثة على قيد الحياة معها، التقطت دوروثي عدة لقطات، ومنها اللقطة المشهورة على الإطلاق، وتمت تسمية تلك اللوحة Migrant Mother، وتعتبر تلك اللوحة شاهداً على ما حصل في الكساد العظيم الذي أصاب الولايات المتحدة، وكانت ترمز إلى المشقة والمعاناة التي تكبدها وبالأخص عمال المزارع في تلك الحقبة.

عُلقت تلك اللوحة في متحف التاريخ الأميركي لتمثل تلك الفترة المؤثرة في تاريخ الولايات المتحدة، وتعتبر تلك الصورة الأهم في حياتها الفنية، وأثرت تأثيراً كبيراً في الصحف وقتها، مما دفع الكثيرين إلى المساهمة بمبلغ 200 ألف دولار لمساعدة المنكوبين في تلك المناطق، وأنارت خبرتها في تصوير البورتريه لها طريقاً مختلفاً، وثقت فيه وساهمت به مساهمة فعالة وكبيرة بإظهار المعاناة والمشاكل التي عانى منها المجتمع بتوثيق مجمل المعاناة تحت إدارة الرئاسة الأميركية.

رحلة مثيرة

حوادث ليست بقليلة لكنها كبيرة ومهمة أظهرتها عدسة دوروثي بتنقلها إلى أرياف عدة ولايات في أوقات صعبة وحرجة في تلك الأيام العصيبة التي مرت ومنها كاليفورنيا، أوكلاهوما، ألاباما، تكساس وواشنطن، ومن الأحداث التي أبرزتها دوروثي أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية السخط الذي ناله الأميركان من أصول يابانية عقب هذه الأحداث، حيث تم عزلهم عن المجتمع في مخيمات استعداداً لترحيلهم، فقامت دوروثي بإثارة الرأي العام وتوثيق تلك الأحداث.

مرض السرطان

عقب تلك الرحلة المهنية المليئة بالإثارة لما حدث في الولايات المتحدة، عانت كثيراً من مرض السرطان، فأخذت لها جولة مع أسرتها إلى بعض الدول الآسيوية ومصر وأميركا الجنوبية ثم أيرلندا، وخلال هذه الفترة طُلب منها تدريس التصوير الفوتوغرافي في جامعة كاليفورنيا، كما أقامت معرضا مع الفنان EDWARD STICHEN بعنوان FAMILY OF MAN في معرض MOMA بسان فرانسيسكو.

ومن الأحداث التراجيدية في حياتها، أنه طُلب منها إقامة معرض في متحف الفن الحديث بسان فرانسيسكو MOMA، تعرض فيه مسيرتها الفنية، وقد وافقت على هذا المعرض لكن لم يحالفها الحظ لرؤيته، حيث توفيت بتاريخ 11 أكتوبر 1965، وبعد مماتها جرى افتتاح معرض مسيرتها الفنية الحافلة بالإنجازات في تاريخ 26 يناير 1966.

نضال المجتمعات الفقيرة

كان بول تايلورو، وهو زوج دوروثي لانج، مصوراً وثائقياً، وكان من مشاهير الصحافة الأميركية، وعمل خبيراً اقتصادياً وعالماً اجتماعياً، وتعاون مع لانج في العديد من المشاريع، بما في ذلك أعمالهما المؤثرة خلال فترة الكساد الكبير، وانصب اهتمامهما على توثيق نضال المجتمعات الفقيرة والنازحة، حيث يلتقط تصوير لانج بوضوح التأثير البشري للصعوبات الاقتصادية وأبحاث تايلور التي توفر سياقاً اجتماعياً واقتصادياً لصورها. جمعت شراكتهما مواهبهما لإنتاج عمل قوي وواعٍ اجتماعياً كان له تأثير دائم على الوعي العام والسياسة العامة.

عقب رحلة مهنية مليئة بالإثارة عانت كثيراً من مرض السرطان قبل رحيلها

ونظراً لصدقها وحبها لمهنتها كانت توثق الحدث بالصورة الصادقة، حيث كانت اللقطات تظهر مدى الصدق، لذلك وصلت أعمالها إلى معظم الولايات المتحدة، ونظراً لهذه القيمة وصل تأثير هذه الأعمال إلى رئيس الولايات المتحدة كرسالة صادقة حركت عدة مؤسسات لتصحيح الأوضاع الخاطئة، كل ذلك جاء بفضل مصورة في حقبة من تاريخ الولايات المتحدة.

 

المصدر: الجريدة
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments