“المشي في المتاهة”: نشاط قديم يساعد في الحد من التوتر والقلق

أصبحت “المتاهات” طريقة عالمية شائعة للحد من التوتر والقلق من خلال نشاط يربط العقل بحركة الجسم.

ذهبت سيرا على الأقدام بخطوات بطيئة إلى حدائق منحدرة في مكان لم أكن أعلم بوجوده حتى بدأت كتابة هذا المقال، مررت بهذه الحديقة مئات المرات، وهي حديقة تبعد ميلا واحدا فقط من منزلي الكائن في مدينة برايتون آند هوف الساحلية الإنجليزية، دون أن أعلم يوما أنها تحتوي على متاهة.

صمم تلك المتاهة الفنان كريس دروري في عام 2006، وهي مستوحاة من تصميم معقد على شكل بصمة أصابع عملاقة يبلغ عرضها 40 مترا، وتتميز بحجارة موضوعة بطريقة مسطحة على العشب.

ويقول القس لورين أرتريس، الذي أسس منظمة “فيريديتاس” غير الربحية في عام 1996 والتي تهدف إلى المساعدة في “ملء الكوكب بالمتاهات”، إن المتاهة “مسار أكيد في أوقات لا يمكن التنبؤ بها”.

شهد نشاط المشي في المتاهة إقبالا متزايدا خلال السنوات الماضية، ومنذ عام 2009، يحتفل الناس يوم السبت الأول من شهر مايو/أيار في جميع أنحاء العالم بيوم المتاهة العالمي من خلال المشي في طرق طويلة وقصيرة عبر مجموعة واسعة من المتاهات التي انتشرت في جميع أنحاء العالم خلال العقود الأخيرة، إذ توجد حاليا نحو 6400 متاهة في أكثر من 90 دولة.

وتضيف: “خلصت دراستنا إلى أن المشي في المتاهة يمكن أن يعزز الشعور بالسلام والمشاعر الإيجابية الأخرى، كما يحد من التوتر، ويرسخ فكرة التصالح من النفس والتواصل ويوفر فرصة للتفكير في حياة الفرد وإضفاء معنى للأشياء”، يحدث ذلك من خلال التقدم نحو مركز المتاهة، ببطء وخطوات مدروسة مع اتباع التغيرات والمنعطفات داخل التصميم.

ويمكن رصد أشكال لا حصر لها من المتاهات التاريخية في شتى أرجاء العالم، من بينها مجموعة تصاميم حجرية تصطف على شواطئ بحر البلطيق، كما نُقشت تصاميم أخرى لمتاهة معروفة باسم “تشاكرا فيوها (عجلة الغزْل)” على جدران معبد هندي، ويحتوي الفن القبلي الأمريكي الأصلي على تصميم معروف باسم “توهونو أودهام (الرجل في المتاهة)”.

وعلى الرغم من ذلك فإن العديد من المتاهات تستمد تصاميمها من قالبين كلاسيكيين، أحدهما يطلق عليها الكريتي والآخر قالب شارتر، ويعود تاريخ المتاهات الكريتية إلى ما يزيد على 3000 عام، وقد سُميت على اسم جزيرة تقع في البحر المتوسط، ويقال إن تكويناتها نشأت في الأساطير اليونانية، وتتكون من مسار واحد يلتف ذهابا وإيابا على نحو يشكل سبع دوائر حول المركز.

المتاهة الجديد العملاقة

ذهبت في رحلة خاصة إلى متاهة تقع على ضفاف بحيرة وسط منطقة برية جميلة في مدينة بودمين مور في مقاطعة كورنول الواقعة في أقصى غربي إنجلترا، وهو المكان الذي يوشك فيه الانتهاء من أعمال بناء متاهة “كيردرويا” بعد عدة سنوات من العمل، وقد سُميت على اسم كلمة باللغة الكورنية تُترجم بـ “قلعة المنعطفات”.

بُنيت تلك المتاهة اعتمادا على تصميم كريتي يبلغ قطره 56 مترا، يميزها شكل من أشكال الجدران الحجرية المعروفة باسم السياج الكورني، والذي استُخدم منذ نحو 4000 عام، ويعد من بين أقدم الهياكل الحجرية التي بناها الإنسان في بريطانيا.

ويقول ويل كولمان، المدير الفني لمنظمة “غولدن تري” الثقافية في كورنول، الذي يقف وراء تصميم وبناء هذه المتاهة العملاقة: “طرحت الفكرة منذ 20 عاما ولكن لم أحظ بأي تشجيع كما لم أحصل على تمويل، لذا ظلت الفكرة حبيسة الأدراج”.

ويقع موقع بناء متاهة “كيردرويا” المثير في منطقة برية في إنجلترا، تضم مصدرا لأحجار الأساس المستخدمة في بناء جدران المتاهة من بحيرة مجاورة، وقد اكتُشف تحت سطحها مؤخرا سياج كورني كان مغمورا منذ قرون.

ويقول كولمان: “لم يكن مسموحا لنا بوضع الآلات الصناعية في الموقع، لذا استخدمنا الخيول والزلاجات والسلاسل البشرية لنقل الحجارة”.

كما تحتوي المتاهة على مسارات مزودة بإرشاد صوتي يساعد الزائرين من ضعاف البصر على السير داخلها، ويقول كولمان: “لا أخبر الناس بما يفكرون فيه، يمكنهم أن يفعلوا ما يحلو لهم. سوف يستمتع الناس في المستقبل بالشكل الجميل والبناء المبتكر”.

وكشف كولمان عن كيف استفاد أثناء عمله من تصميم كريتي قديم لمتاهة منحوتة على صخرة تقع على ضفاف نهر في وادي روكي على مقربة من قرية تينتاغل الكورنية التاريخية، ويُعتقد أن منحوتات وادي الصخور يبلغ عمرها نحو 300 عام، بيد أن كولمان يقول إن تصاميم المتاهة تعكس تصميما عمره 1300 عام عُثر عليه منقوشا على صخرة في كنيدوس جنوب غربي تركيا.

وعلى الرغم من كوني أقف ساكنا أتابع منظرا ممتدا عبر البحيرة، كانت أفكاري تسافر عبر الزمان والمكان.

تُلهم المتاهات التاريخية أيضا اتجاها معاصرا يطلق عليه اسم “متاهات الأصابع”، إذ توفر هذه المنحوتات الحديثة المستوحاة من المنحوتات الصخرية القديمة مسارات تساعد في ممارسة التأمل من خلال إنشاء تصاميم مطبوعة أو منقوشة يمكن للمستخدمين تتبع مساراتها يدويا، باستخدام الأصابع في رحلتهم إلى مركز المتاهة.

وربما يكون المثال الأكثر طموحا لمتاهات الأصابع تلك المنقوشة على لوحات في 272 محطة في شبكة مترو أنفاق لندن الواسعة، أحدثها تصميمان وُضعا في محطتي “ناين إلمز” و”باترسي باور” في عام 2023.

كان مشروع وضع متاهات في مترو أنفاق لندن من أفكار الفنان مارك والينغر، الحائز جائزة “تيرنر”، والذي عمل بالتعاون مع مؤسسة “ميزكيب” التي تضم مصممي متاهات مشهورين في العالم. كان أحد التحديات التي واجهت فريق العمل هو وضع تصميم متاهة مختلف في كل محطة، لتعكس فكرة أن كل رحلة في مترو الأنفاق فريدة لكل شخص.

فمن أجل وضع 272 تصميما مختلفا للمتاهات، درست مؤسسة “ميزكيب” مجموعة كاملة من التصاميم التاريخية، ويقول أنغوس ميوس، مصمم في المؤسسة: “أفضّل شخصيا تصميم توهونو أودهام الأمريكي الأصلي التقليدي، إذ تعجبني الطريقة التي يضيق بها المسار، كما يعطي إحساسا بالإثارة المتزايدة وكثافة المسار كلما اقتربت من المركز”.

أصبحت متاهات مترو أنفاق لندن الآن مقصدا لزيارة الكثيرين، وتقول إليانور بينفيلد، رئيسة قسم الفن في مترو الأنفاق: “نسمع بانتظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن زائري المتاهة الذين يذهبون إلى كل محطة لالتقاط صورة”.

 

المصدر: BBC
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments