«الغاوي»… دراما شعبية بحس سينمائي ورسائل خفية

وسط زحام الأعمال الدرامية التي تتنافس في موسم رمضان، جاء مسلسل «الغاوي» ليصنع حالة خاصة مختلفة عن الدراما التقليدية التي اعتاد عليها المشاهد، ليس مجرَّد مسلسل شعبي آخر، وليس محاولة لاستنساخ نجاحات سابقة، بل هو تجربة درامية تحمل بُعداً فلسفياً، تسلط الضوء على قاهرة لم تعد تُرى بوضوح في الأعمال الفنية.

منذ اللحظات الأولى، يأخذك «الغاوي» في رحلة إلى قلب الشارع المصري، حيث تمتزج الواقعية بالشاعرية، وحيث تتحوَّل الدراما إلى قصيدة بصرية تنبض بالحياة.

يعرف الجمهور أحمد مكي كممثل يمتلك قدرة فريدة على خلق شخصيات نابضة بالحياة، لكنه في «الغاوي» يقدم نفسه بشكل مختلف. شخصية «شمس»، التي يؤديها، ليست مجرَّد بطل شعبي بالمعنى التقليدي، بل هي شخصية تحمل عُمقاً إنسانياً كبيراً، تجعلك تتعاطف معها دون أن تشعر بأنها تحاول استدرار عطفك.

في كل مشهد، يبدو وكأن مكي يعيش الشخصية أكثر مما يؤديها، مُستخدماً أدوات تمثيلية ناضجة، تعتمد على التفاصيل الصغيرة والنظرات والتعبيرات الدقيقة أكثر من الحوارات المطوَّلة. ليس غريباً أن نجد المشاهدين يصفونه بأنه «شاعر الدراما الشعبية»، لأنه يقدم صورة مختلفة تماماً عن البطل الشعبي الذي اعتدنا عليه في السنوات الأخيرة، حيث لا يصرخ، ولا يستعرض عضلاته، بل يعتمد على الصدق والبساطة.



الإيقاع في «الغاوي» سريع، لكنه ليس متسرعاً، يقدم دراما مكثفة، لا تمنح المشاهد فرصة للتشتت. كثيرون لاحظوا أن الحلقات تمضي بسرعة، وكأن المسلسل بأكمله أقرب إلى فيلم سينمائي طويل قُسِّم إلى أجزاء، وليس عملاً درامياً تقليدياً يعتمد على التمهيد والإطالة. هذه السرعة في السرد لا تعني التسرُّع، بل هي انعكاس لعالم أصبح كل شيء فيه يتحرك بسرعة، وكأن «الغاوي» يريد أن يعكس هذا الإحساس من خلال إيقاعه المتلاحق وأحداثه المشدودة.

على مستوى الإخراج، استطاع ماندو العدل أن يخلق عالماً بصرياً مميزاً، حيث تبدو القاهرة القديمة وكأنها إحدى شخصيات العمل. لا يكتفي بنقل الصورة، بل يجعلها جزءاً من الحكاية، مستخدماً الكاميرا لرصد التفاصيل التي تصنع روح المكان، الكادرات مدروسة بعناية، والضوء واللون يلعبان دوراً في خلق المزاج العام للمسلسل، مما يجعل المشاهد يشعر وكأنه يسير في شوارع القاهرة القديمة، يستنشق هواءها، ويرى ناسها عن قُرب. حتى التتر يحمل طابعاً روحانياً مختلفاً، كأنه جسر يأخذ المشاهد إلى أجواء المسلسل قبل أن تبدأ الأحداث.

لكن «الغاوي» ليس مجرَّد تجربة بصرية مميزة، بل هو أيضاً عمل يحمل رسائل واضحة بين السطور. هناك محاولة لإعادة تقديم صورة الأحياء الشعبية المصرية بعيداً عن التنميط الذي شوَّهها لسنوات. هنا، الناس ليسوا مجرَّد بلطجية أو تجار ممنوعات، بل هم بشر لهم أحلامهم وصراعاتهم وقيمهم الخاصة. من خلال شخصياته، يقدم المسلسل صورة أكثر صدقاً وواقعية للمجتمع الشعبي، حيث الخير والشر متداخلان، وحيث الشخصيات ليست أبيض وأسود، بل تحمل في داخلها تناقضات الإنسان الحقيقي.

حاول مكي ومَنْ معه في «الغاوي» استعادة جزء من الهوية المصرية الحقيقية، التي كادت تضيع وسط زحام الأعمال التي تقدم صورة مشوهة للشارع المصري، وكأنهم يقولون «هذه هي مصر الشعبية الحقيقية، حيث لا يوجد افتعال أو مبالغة، بل حيث تعيش شخصيات قريبة منا، بأحلامها البسيطة، بصراعاتها التي تبدو مألوفة، وإنسانيتها التي تجعلها قابلة للفهم».

ما يجعل «الغاوي» أكثر تميزاً، هو أنه لم يحاول مجاراة الاتجاهات السائدة في الدراما، بل صنع لنفسه مساراً خاصاً، بعيداً عن الضجيج المعتاد، لم يعتمد على مشاهد الصراخ أو العنف المفرط، ولم يحاول استمالة الجمهور بإثارة مفتعلة، بل قدَّم حكاية إنسانية صادقة، اعتمدت على شخصيات حقيقية وأداء تمثيلي صادق وإخراج يعكس حساً سينمائياً نادراً في الدراما التلفزيونية.

 

المصدر: الجريدة
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments