توصل علماء بريطانيون مؤخرا إلى أن فحصا للدماغ مدته 10 دقائق من الممكن أن يتنبأ بما إذا كان الشخص سيصاب بالخرف أم لا قبل بضعة أعوام من الإصابة به.
وقال العلماء -الذين ابتكروا الفحص واختبروه على عينة من الأشخاص- إن دقة الاختبار بلغت 80 في المئة، وإنهم توقعوا الإصابة بالمرض قبل فترة قد تصل إلى 9 سنوات. ويقدم هذا الفحص الأول من نوعه وسيلة أدق للتنبؤ بالإصابة بالخرف مقارنة باختبارات الذاكرة أو قياس انكماش خلايا المخ الشائعة في الوقت الحالي.
أول ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع كلمة “الخرف” هو مشكلات الذاكرة أو النسيان، ولكن هناك أعراض أخرى عديدة تشمل تغيرات في السلوك والشخصية، وهي تفاجئ في كثير من الأحيان أفراد أسرة المريض.
فماذا نعرف عن الخرف؟
التقدم في السن هو أكبر عوامل الخطر، إذ يصيب المرض واحدا من بين 14 شخصا فوق سن الـ 65 عاما، وواحدا من بين كل ستة أشخاص فوق الـ 80 عاما. ولكنه قد يصيب أيضا أشخاصا أصغر سنا. وتشمل عوامل الخطر التي تزيد من احتمال الإصابة بالخرف: التدخين والسمنة ومرض السكري وارتفاع ضغط الدم وارتفاع نسبة الكولسترول الضار وفقدان السمع وصعوبات التعلم والوحدة والعزلة وقلة النشاط الرياضي والاكتئاب الذي لا يتم علاجه والالتهاب والتلوث ومشكلات النوم والنظام الغذائي غير الصحي والإفراط في تناول المشروبات الكحولية. ويمكن أن تحدث الإصابة نتيجة خلل في الجينات يصاب به أفراد من نفس العائلة، لكنه عامل نادر جدا.
“فقدان الذاكرة بالتأكيد عرض بارز، ولكنه ليس الوحيد، فهناك أعراض إدراكية أخرى، فضلا عن الأعراض السلوكية”، هكذا أخبرني البروفيسور دنيس تشان أخصائي أمراض المخ والأعصاب والأستاذ بجامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن.
“قد يكون القلق أو ضعف الوعي المكاني أو صعوبة تنظيم الأشياء. ومع تقدم الحالة، تظهر الأعراض الأخرى، وهي الأعراض الكلاسيكية، وتتمثل في الارتباك الوقتي أو المكاني، وصعوبة اتخاذ القرارات أو القيام بمهام متعددة، كما تتأثر اللغة والقدرة على الكلام. ثم تزداد الأعراض السلوكية مثل القلق والتوتر والهيجان. هذا بالنسبة الزهايمر. إذا نظرت إلى حالات أخرى، مثل خرف أجسام ليوي، فإن أحد الأعراض الأولى هو الهلوسة – رؤية أشياء غير موجودة أو توهم أحداث”.
أما الأشخاص المصابون بالخرف الوعائي أو مرض باركينسون؛ فيقول البوفيسور تشان إنهم قد يعانون من مشاكل في الحركة. وقد تكون الإشارة الأولى هي الصعوبة في المشي أو النهوض من الكرسي. وهناك حالات أخرى يمكن أن تسبب حركات غير طبيعية للعين.
تغيرات سلوكية
“ما لم نكن نتوقعه هو أنه بعد فترة قصيرة، طرأت على شخصيتها تغيرات كبيرة. فقد تحولت من شخصية رقيقة بشوشة إلى شخصية شديدة العصبية والانفعال. أصبحت ترفض تماما مغادرة المنزل رغم أنها كانت دائماً تستمع بزيارة صديقاتها. لطالما كنت أنا الأكثر قربا منها، لكنها صارت الآن تهتم بشقيقي بشكل غير مسبوق، وباتت تسأل عنه باستمرار عندما لا يكون معها في البيت. تتصل به هاتفيا مرات عديدة في مكتبه لأنها تنسى أنها اتصلت به. كما أنها صارت شديدة الحساسية وسريعة البكاء. أحيانا أشعر أنها ليست أمي التي أعرفها ولكنها سيدة أخرى لديها نفس ملامحها”.
حدثتني “نورا” (اسم مستعار) أيضا عما لاحظته من تغيرات سلوكية طرأت على والدها بعد فترة من إصابته بالخرف الوعائي قبل نحو ثلاث سنوات.
“الحلم والوقار كانا من أبرز صفات أبي، لكن بعد شهور من إصابته بالمرض، أصبح سريع الانفعال وأصيب بالاكتئاب لدرجة أنه أحيانا يقضي ساعات طويلة لا ينطق بكلمة واحدة، وإذا حاولنا إشراكه في الحوار أو إقناعه بتجاذب أطراف الحديث، تكون استجابته بالإيماء”.
تتفاوت التغيرات التي تطرأ على شخصية مريض الخرف وسلوكياته من شخص إلى آخر، ولكن من أكثرها شيوعا:
ويقول البروفيسور تشان إن هناك العديد من العوامل التي تؤدي إلى تلك التغيرات السلوكية.
“مع تقدم المرض، يدرك الأشخاص أنهم ليسوا كما كانوا، وهذا بالطبع يسبب الكثير من الحزن والإحباط والغضب وفقدان الثقة بالنفس، مما قد يتجلى في صورة سلوكيات عدوانية أو سرعة الغضب أو الحساسية المفرطة. ويتعامل كل مريض بشكل مختلف مع ما يبدو زيادة في وعيه بوجود مشكلة”.
ويضيف تشان: “مع تقدم المرض أيضا، تتعرض خلايا الدماغ للمزيد من التلف، تلك الخلايا التي تساعد على التحكم في سلوكنا. على سبيل المثال، بالنسبة لي ولك، هناك قواعد للسلوك الاجتماعي نلتزم بها؛ فنحن لا نصرخ أونصيح معظم الوقت لأننا نعرف أن ذلك غير مقبول. يتحكم في ذلك دوائر عصبية داخل الفص الجبهي للدماغ، ومع تقدم حالة الخرف، قد تتعرض تلك الدوائر للتلف، ما يعني أن المرضى لن يكون لديهم نفس القدرة على السيطرة على سلوكهم، ويظهر ذلك في هيئة تصرفات غير مقبولة. هذا للأسف جزء من الخرف، وهو ما نسميه الأعراض النفسية العصبية”.
يقول البروفيسور تشان إن “الوضع الكلاسيكي الذي نلاحظه هو أنه إذا كان الشخص يعاني ألما عاطفيا أو جسديا ولا يستطيع التعبير عنه بالكلمات، فإنه لا يستطيع التعامل معه، فينعكس ذلك على تغيرات في السلوك. لذا نحاول في هذه الحالات معرفة السبب الأساسي: هل هو غير راض عن شيء ما؟ هل هي الظروف المحيطة؟ هل هي صعوبات في النوم، أم ألم جسدي؟”.
ومن ثم تتضح أهمية فهم سلوك المريض للتعامل معه بالشكل الذي يضمن راحته. وتجدر الإشارة إلى أن تلك التغيرات تتفاوت من شخص إلى آخر، وقد تحدث ببطء أو بشكل مفاجئ، ولا سيما عندما يصاب المريض بعدوى أو يشعر بآلام جسدية.
ما الطريقة المثلى للتعامل مع التغيرات الناجمة عن الخرف؟
كثيرا ما يجد القائمون على رعاية مريض الخرف أنفسهم في حيرة بشأن أفضل أسلوب للتعامل معه، ولا سيما عندما تبدر منه سلوكيات غير معتادة.
يقول “وحيد” إنه في البداية كان يدخل في مناقشات مع والدته ويلفت انتباهها إلى التغيرات التي طرأت على سلوكها، لكنه أدرك أنها لا تقتنع بكلامه، كما أنها تنسى تلك الحوارات أيضاً.
“بدأت أشعر بأن والدتي، وهي سيدة حادة الذكاء، تتصرف بهذه الطريقة لأنها تدرك أن شيئا ما قد تغير، لكنها لا تستطيع أن تحدد ما هو. كما لاحظت أن أي تغيير في روتينها اليومي أو محيطها يتسبب لها في توتر ينعكس على سلوكها، لذا أحاول الآن أن أتفادى تلك التغيرات قدر الإمكان وأقابل سلوكها العصبي بالهدوء، وكان لذلك نتيجة إيجابية”.
وبسؤاله عن الطريقة المثلى للتعامل مع التغيرات السلوكية لمريض الخرف، أجابني البروفيسور تشان بأنه يجب التعامل مع كل حالة على حدة.
“بعض الأشخاص مستعدون للنقاشات ولديهم وعي كاف لما يحدث بداخلهم يجعلهم يدركون أنهم ربما أصبحوا سريعي الغضب أو أكثر انفعالا، في هذه الحالة هناك مجال أكبر للحديث معهم وربما التفكير في بديل. لكن للأسف، في حالات كثيرة يصاب المريض بما نسميه فقدان البصيرة، ولا يتقبل بالتالي أن سلوكه ربما يكون غير مرغوب فيه”.
ويضيف تشان أنه في بعض الحالات الشديدة يُطلب من الأطباء التدخل، من خلال وصف أدوية مضادة للتوتر أو الاكتئاب، وفي الحالات الأكثر خطورة يضطرون إلى استخدام ما يعرف بالأدوية المضادة للذهان.
“مسن بسلوكيات طفل”
مع تقدم مراحل الخرف، نجد أحيانا أن الأبناء يتعاملون مع آبائهم المصابين به على أنهم أطفال، ويتحدثون إليهم بالطريقة التي يتكلم بها الأب أو الأم مع طفله أو طفلته الصغيرة. وقد لاحظت أن مواقع بعض وسائل الإعلام العربية تستخدم مصطلح “مسن بسلوكيات طفل” للإشارة إلى مريض الزهايمر أو غيره من أمراض الخرف. سألت البروفيسور تشان عن مدى فاعلية هذا النهج في التعامل مع مرضى الخرف.
“لا، لست متأكدا أنه ينبغي معاملة مريض الخرف البالغ كطفل، لأنه ليس طفلا. ذكرت آنفا أن تصرفات المريض قد تتغير بسبب تلف دوائر الدماغ العصبية التي تتحكم في سلوكنا. فيصبح المريض أنانيا وقد يفقد تعاطفه مع الآخرين وذكاءه العاطفي. ويصير كذلك لأنه يفتقد إلى الرؤية الشاملة والفلسفة التي يكتسبها عندما ينمو دماغه في مرحلة البلوغ. من هذا المنظور نستطيع أن نقول إن هناك ارتدادا إلى مرحلة الطفولة. لكني لا أعتقد أن هذه المقارنة دقيقة. فالأسباب مختلفة والظروف مختلفة”.
“لا يمكنني إعطاء مجموعة من الإرشادات أو الأوامر وأقول للناس يجب أن تتصرفوا بهذه الطريقة أو تلك، لأن كل شخص مختلف والديناميكيات الاجتماعية والعائلية والثقافية تختلف بين المرضى. يمكننا تقديم نصائح عامة، وهي أنه إذا كانوا عدوانيين، ينبغي تقبل أن ذلك ليس بإرادتهم، إنها الحالة التي يعانون منها وينبغي علينا أن نعرف تفاصيلها ونعالجها. لا تكونوا عدوانيين في المقابل – لا تقاوموا النار بالنار. إذا فقدوا البصيرة فلا جدوى من الاستمرار في محاولة غرسها فيهم إذ لن يكون لديهم هذا الوعي”.