13 أغسطس/آب هو اليوم العالمي للعُسر – أو من يستخدمون اليد اليسرى بشكل أساسي-، ولا يزال الغموض يكتنف السبب الذي يجعل عدد من يستخدمون يُسراهم بشكل أساسي يقل نسبياً عن من يستخدمون اليد اليمنى.
رغم ذلك فإن الدراسة العلمية لظاهرة “الإعسار”، وهو تفضيل استخدام اليد اليسرى أكثر من اليمنى، تكشف عن حقائق مشوقة عن الإنسان؛ بدءاً من كيف يمكن أن يغير ذلك من الطريقة التي يفكر بها، وصولاً إلى حقيقة أن هناك بيننا من يمكن أن يكونوا “عُسر” ولكن في حاسة السمع هذه المرة، وليس في اليد.
مد إحدى ذراعيك، وأرفع الإبهام أمامك. بعد ذلك، انظر له بكلتا عينيّك ثم بكل عينٍ على حدة مع تغطية العين الأخرى. وهكذا فستكون عينك الأكثر قوة، هي تلك التي تُمكِنُكَ من رؤية الأصبع وهو أقرب ما يكون إلى صورته الأصلية.
الغريب أن النسبة تقل كثيراً إذا ما كان الأمر يتعلق بمن هم “عُسر”، إذ إن نسبتهم لا تتجاوز 10 في المئة من البشر. فما السبب في ذلك؟ ولِمَ يشكلون أقلية بيننا؟
في غابر الأزمان، كان هؤلاء يُطردون من بين صفوف التلاميذ بشكل مدوٍ وعلى نحو يصمهم بالخزي والعار، باعتبارهم منحرفين عن “الطريق الطبيعي”. بل إن الدلالات السلبية المرتبطة على نحو غريب بالشخص الأعسر لا تزال باقية في بعض اللغات.
فمفردة “أيسر” أو left باللغة الإنجليزية مُشتقة من أصل لغوي أنغلو-ساكسوني كان يُكتب على هذه الشاكلة lyft ومعناه “ضعيف”. أما الكلمة المناقضة لـ”أيسر” في اللغة اللاتينية فهي dexter، وتعني “أيمن” وكانت ترتبط بالمهارة والاستقامة والورع والإنصاف.
إذن، ما الذي يحدد ما إذا كان شخصٌ ما سيصبح أعسرا أم لا؟ إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية نظرية التطور، سنجد أنه من الملائم أكثر أن يركز المرء على استخدام يدٍ واحدة أكثر من الأخرى. فقردة الشمبانزي تميل إلى أن تُسند إلى “إحدى يديها” مهاماً بعينها.
بعد ذلك يسحب الشمبانزي “يده” بخفة، ليكشف عن فرائسه التي تحاول أن تُعمِل فكوكها بقوة في ذاك الحيوان الدخيل، دون أن تدرك أن ذاك الغازي الذي يتضور جوعاً على وشك التهامها.
ومن شأن استخدام الشمبانزي “اليد” نفسها في أداء تلك المهمة في كل مرة؛ جعله أكثر إتقاناً فيها وتمكينه من التهام عدد أكبر من النمل خلالها كذلك.
لكن دراسة العلماء المتخصصين في رتبة “الرئيسيات” لقردة الشمبانزي التي تعيش في البرية، أشارت إلى أن نمط استخدامها لأطرافها يختلف عنّا تماماً.
ففي كل مهمة من المهام التي درسها الباحثون وتقوم بها الشمبانزي، تبين أن نصف هذه القردة تستخدم لأدائها “يداً يمنى”، بينما يلجأ النصف الآخر لليسرى، أي بنسبة 50 في المئة إلى 50 في المئة، وهو ما يجعلنا نتساءل: في أي مرحلة من مراحل تطورنا إذاً ظهرت غلبة من يستخدمون اليد اليمنى بشكل رئيسي على أقرانهم العُسر، حتى أصبح هناك شخص واحد من بين كل عشرة أشخاص يستخدم اليد اليسرى؟
فأسلافنا استخدموا أسنانهم لتثبيت شرائح من اللحم حتى يتسنى لهم تقطيعها بسكينٍ يحملونها في اليد التي ينزعون لاستخدامها أكثر من اليد الأخرى.
وكان ذلك يُحدِثُ آثاراً في أسنانٍ تُعرف باسم “القواطع الأمامية”، وتسنى للعلماء عبر فحص هذه الآثار تحديدُ أي اليدين كانت تحمل السكين وأيهما كانت تمسك باللحم. ومن المذهل أن هذا الفحص كشف عن أن نسبة “العُسر” إلى من يستخدمون اليد اليمنى بين المنتمين لهذا النوع البدائي من البشر، كان مماثلاً لنسبته السائدة بيننا حاليا؛ أي واحد إلى عشرة.
على أي حال، من المعروف أن ثمة أصلاً جينياً لمسألة تفضيل استخدام يدٍ عن الأخرى. ولكن العلماء في هذا المضمار لا يزالون يحاولون تحديد الأجزاء المسؤولة عن ذلك بالتحديد في الحمض النووي، في ظل اعتقادٍ بأن عدد الجينات التي تلعب دوراً في هذا الصدد قد يصل إلى 40 جِيناً مختلفاً.
ولكن هل كون المرء أعسر اليد يخلّف أيَ تأثيرٍ على حياته، بخلاف معاناته – ولو قليلاً – في العثور على مقصٍ مُعد بشكل ملائم لاستخدامه بيده اليسرى، أو سحاب سروال لا يضنيه إغلاقه، أو قلم حبر مريح بالنسبة له؟
لطالما دار جدال حول ما إذا كان نزوع المرء لاستخدام اليد اليسرى يؤثر بأي شكل على دماغه أم لا. فالجانب الأيمن من الدماغ يتحكم في اليد اليسرى والعكس بالعكس. ولذا فقد يؤدي كون المرء أعسر اليد إلى ترك آثارٍ غير مباشرة – ولكن لا مفر منها – على الشاكلة التي يُنسق بها عمل الدماغ.
ويضيف ماكمانس قائلاً: “حدسي الشخصي يفيد بأن الأعسر ينعم بموهبة أكبر، ويعاني من أوجه قصور أكثر أيضا. فإذا ما كنت كذلك، فقد تجد نفسك إزاء طريقة مختلفة قليلاً فيما يتعلق بالشكل الذي يُنظم دماغك على أساسه، وهو ما قد يهبك مهاراتٍ لا ينعم بها أشخاص آخرون”.
لكن هناك من لا يتفقون مع هذا الرأي. من بينهم، دوروثي بيشوب، أستاذة علم النفس العصبي التطوّري في جامعة أكسفورد. ولدى هذه السيدة اهتمامٌ شخصيٌ بالأمر، فهي عسراء أيضاً، وهو ما جعلها تتساءل دائماً – كما تقول – عن السبب الذي جعلها مختلفة عن سواها.
وتستطرد بيشوب بالقول: “على مدار سنوات، ثارت ضروبٌ شتى من المزاعم التي تربط كون المرء أعسر اليد بالمعاناة من حالات عجزٍ مثل عسر القراءة، أو التوحد. في المقابل، كان هناك ربطٌ (لهذا الأمر) بسمات إيجابية، إذ يُقال إن المهندسين المعماريين والموسيقيين غالباً ما يكونون من العُسر”.
لكن أقاويل من هذا القبيل بدت غير مقنعة لبيشوب، وذلك بعدما أطلعت على البيانات والإحصائيات ذات الصلة بذلك. وتقول في هذا الصدد إن الكثير من تلك الافتراضات نتجت عما سمته بـ”تحيزٍ في تسجيل بيانات بعينها دون سواها”.
وتضرب هنا مثلاً بالقول: إذا كان باحثٌ يجري دراسة ما عن الاتصاف بروح ابتكارية، مثلاً، وأورد فيها سؤالاً عن العلاقة بين متغيريّ “الإعسار”، والابتكار؛ فسيشعر بالحماسة إذا ما وجد حالةً تثبت وجود مثل هذه العلاقة، دون أن يتطرق لذكر الحالات الأخرى التي لم تثبت أي صلة بين هذين المتغيرين.
وتعتبر بيشوب أن كون المرء أعسرا ربما يكون عرضاً لا سبباً في حد ذاته. وتوضح قائلة: “الإعسار نفسه لا يخلق مشكلات، بل إنه قد يكون عرضاً لحالةٍ كامنة”. وتشير إلى أن النزوع لاستخدام اليد اليسرى “لا يؤثر على الإطلاق على التطور المعرفي الفكري بالنسبة لغالبية الناس”.
على أي حال، لا يزال النقاش محتدما في هذا الشأن، وما زلنا بحاجة للتعرف على الكثير من المعلومات الخاصة بطبيعة دماغ الشخص الأعسر.
ويتمثل جانبٌ من هذه المشكلة في أن علماء الأعصاب، الذين يبحثون جوانب متنوعة من السلوك البشري، لا يجرون الدراسات التي يستخدمون فيها تقنية تصوير الدماغ باستخدام الرنين المغناطيسي، إلا على من ينزعون لاستخدام اليد اليمنى بشكل أكبر، وذلك في مسعى منهم لتقليص الفوارق بقدر الإمكان بين الخاضعين للدراسة.
وقد تسنى العلم بمثل هذا الأمر بفضل دراسات رائعة أجراها بيتر هَبَر، الباحث بجامعة “كوينز” في بلفاست، لفحص حركة الجنين داخل الرحم باستخدام الموجات فوق الصوتية.
فقد كشفت هذه الدراسات عن أن تسعة من كل عشرة أجنة، يفضلون مص إبهام اليد اليمنى، وهو ما يماثل نسبة من ينزعون لاستخدام ذات اليد بين السكان عموماً. وعندما تابع الباحث حالة هؤلاء الأجنة بعد سنوات عديدة من ولادتهم، وجد أن من كانوا منهم يمصون إبهام يُمناهم بداخل الرحم أصبحوا يفضلون استخدام اليد نفسها خلال حياتهم خارجه، أما من آثروا مص إبهام يُسراهم فقد باتوا عُسر.