قد تؤثر علاقاتك الاجتماعية على صحّتك بقدر ما تفعل التمارين الرياضية اليومية. الكاتب ديفيد روبسون يبحث في كتابه الجديد حول العلاقات، عن الأدلة والأسباب خلف هذا الرابط المُفاجئ.
إن كنت قد ألقيت نظرة على أحدث الأفكار حول الرفاهية وطول العمر، ستلاحظ التركيز المتصاعد حول وضع علاقاتنا. وقيل لنا أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بشبكة علاقات مزدهرة، قد تكون صحتهم أفضل من أولئك الذين يشعرون بالعزلة.
وترتبط تفاعلاتنا مع الآخرين بشكل وثيق بطول أعمارنا. حتى أنّ منظمة الصحة العالمية أنشأت لجنة جديدة خاصة بالتواصل الاجتماعي ووصفتها بأنها “أولوية صحية عالمية”.
قد تشكّك قليلاً بهذه المزاعم، وبالآليات الغامضة التي من المفترض أن تربط بين صحتنا الجسدية وقوة علاقاتنا.
في المتوسط، كان الأشخاص الذين لديهم أكبر عدد من العلاقات أقل عرضة للوفاة بنحو النصف تقريباً، مقارنة بالأشخاص الذين لديهم شبكة علاقات أقلّ حجماً. وبقيت النتيجة ذاتها حتى بعد أن تحكموا بعوامل مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي وصحة الناس في بداية الدراسة، فضلاً عن استهلاك السجائر وممارسة الرياضة والنظام الغذائي.
إن الشعور بالارتباط مع الأزواج والأصدقاء المقربين يوفر أكبر قدر من الحماية، ولكن حتى الأشخاص الذين تتعرف عليهم بشكل عرضي في الكنيسة أو في نادي البولينغ يساعدون في إبعاد شبح الموت.
قد يفسر إطلاق هذا الادعاء بجرأة مطلقة، سبب إهماله في البداية في إرشادات الصحة العامة. اعتاد العلماء على رؤية الجسد كنوع من الآلة، منفصلاً إلى حد كبير عن حالتنا العقلية وبيئتنا الاجتماعية. ولكن منذ ذلك الحين، أكدت الأبحاث المكثفة أن التواصل والشعور بالوحدة يؤثران على قابليتنا للإصابة بالعديد من الأمراض المتنوعة.
صلب المسألة
خضع المشاركون لاختبار فحص عدوى موجودة، ووضعوا في حجر صحي وطلب منهم استنشاق قطرات الماء الملوثة بالفيروس الأنفي – وهو الفيروس الذي يسبب العديد من السعال والعطس.
على مدار الأيام الخمسة التالية، استمرت الأعراض في الظهور على العديد من المشاركين، لكن هذا كان أقل احتمالا بشكل ملحوظ لدى الذين يتمتعون بمجموعة كبيرة ومتنوعة من الروابط الاجتماعية.
في الواقع، كان أولئك الذين لديهم أدنى مستويات التواصل الاجتماعي أكثر عرضة للإصابة بنزلات البرد بثلاثة إلى أربعة أضعاف من أولئك الذين لديهم شبكات أكثر ثراء تضمّ العائلة والأصدقاء والزملاء والمعارف.
يجدر بأي عالِم جيّد، أن يفكر دائما في ما إذا كانت العوامل المربكة الأخرى قد تفسر النتيجة.
من المنطقي الافتراض أنّ الأشخاص الذين يعيشون بعزلة، يمكن أن يكونوا أقل لياقة ونشاطاً، إذا كانوا يقضون وقتا أقل في الخارج مع الأصدقاء والعائلة على سبيل المثال.
يطال أثر تعزيز الصحة الاجتماعية، حالات مزمنة وتصطحب معها تغيرات في ظروف الحياة مثل مرض السكّري النوع 2.
وتنمو هذه الحالة حين يتوقف البنكرياس عن إفراز الكمّ الكافي من الأنسولين، وتوقف خلايا الدم عن التجاوب مع الأنسولين الذي يتدفق في الدم – وكلاهما يمنع البنكرياس من خفض نسبة السكر في الدم إلى خلايا الطاقة.
كشفت دراسة أجريت على 4000 مشارك في الدراسة الطولية الإنجليزية حول الشيخوخة أن النتيجة الأعلى في مقياس الشعور بالوحدة في جامعة كاليفورنيا ــ وهو استبيان يستخدمه العلماء لقياس الارتباط الاجتماعي ــ تنبأت بظهور مرض السكري من النوع 2 على مدى العقد التالي. وهناك إشارات تدلّ على أن الأشخاص الذين يتمتعون بروابط اجتماعية أقوى لديهم خطر أقل للإصابة بمرض الزهايمر وأشكال أخرى من الخرف.
ومع ذلك، ترتبط أقوى الأدلة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
وسلطت دراسات كبيرة طالت عشرات آلاف من الأشخاص على مدى سنوات عديدة، الضوء على هذا الرابط.
وقامت جوليان هولت-لانستاند، عالمة نفس من جامعة بريغام يونغ في يوتاه، بجمع نتائج 148 دراسة، وذلك بهدف الحصول على قياس الأهمية الشاملة لتعزيز الصحة الاجتماعية.
الدراسات غطّت 300 ألف مشارك، وفحصت فوائد الانخراط الاجتماعي ومخاطر الانفصال الاجتماعي.
بعدها قارنت جوليان آثار الوحدة مع مخاطر عوامل أخرى في الحياة، من بينها التدخين وشرب الكحول والتمارين والنشاط الجسدي، ومؤشر قياس السمنة، وتلوث الهواء وتناول دواء التحكم بضغط الدم.
النتائج التي صدرت عام 2010 كانت مذهلة، وجدت هولت- لونستاد أن حجم وكمية علاقات الأشخاص الاجتماعية يساويان أو يتخطيان جميع العوامل الأخرى تقريبا، في تحديد الوفيات.
كلما شعر المزيد من الناس بدعم الأشخاص من حولهم، كلما تحسنت صحتهم وقلّ احتمال وفاتهم. بشكل عام، لعب التواصل الاجتماعي – أو غيابه – دورا أكبر في صحة الناس ،من استهلاك الكحول وممارسة الرياضة ومؤشر السمنة وتلوث الهواء. النتائج المتعلقة فقط بآثار التدخين كانت قريبة.
علاقة أم سببية
في هذه الحالة، سيتعين عليك تخصيص بعض الأشخاص لحالة الوحدة، وحرمانهم من الصداقات، بينما يُمنح الآخرون شبكة اجتماعية جاهزة مليئة بالأشخاص المحبين.
ومن الواضح أن هذا أمر يثير الشكّ أخلاقياً ومن المستحيل القيام به عملياً ــ وهي الحقيقة التي دفعت بعض الناس إلى التساؤل عما إذا كانت التأثيرات الواضحة للتواصل الاجتماعي حقيقية ومهمة. وهم يشيرون إلى أن العلماء ربما فاتتهم بعض العوامل المربكة التي تعطي الوهم بوجود صلة بين حياتنا الاجتماعية وصحتنا وطول أعمارنا، على الرغم من بذل قصارى جهدهم.
ومع ذلك، فإن هذه الحجة ليست دامغة تماماً كما تبدو، كما قالت هولت- لونستاد مؤخرا في مراجعة للبحث. ففي نهاية المطاف، لا نستطيع إجراء تجارب عشوائية على البشر لإثبات مخاطر التدخين التي تقصر الحياة ــ وسوف تكون الأخلاقيات أكثر إشكالية ــ ولكن قِلة من العلماء اليوم قد ينكرون حقيقة مفادها أن أحد الأمرين يسبب الآخر. وذلك لأن لدى العلماء معايير أخرى – تُعرف باسم إرشادات “برادفورد هيل” – لإثبات وجود علاقة سببية بين نمط الحياة والمرض.
التسلسل في هذه الحالة، واضح للغاية: أبلغ الناس عن شعورهم بالوحدة قبل فترة طويلة من ظهور اعتلال صحتهم. يمكن للعلماء أيضًا البحث عن “العلاقة بين الجرعة والاستجابة” – أي ما إذا كان التعرض أكثر لعامل نمط الحياة المشار إليه يؤدي إلى خطر أكبر.
مرة أخرى، هناك نمط واضح – من المرجح أن يعاني الشخص المنعزل تماما ً، من صحة أسوأ من الشخص الذي يشعر بالوحدة أحياناً، والذي بدوره يعاني من مرض أكثر من الشخص الذي لديه دائرة اجتماعية نابضة بالحياة.
يمكنك كذلك التحقق مما إذا كانت النتائج متسقة، عبر مجموعات سكانية مختلفة وباستخدام أنواع قياس مختلفة.
إذا تم تحديد التأثيرات في عينة صغيرة واحدة فقط، فمن حقك أن تثير الشكوك. لكنّ الأمر ليس كذلك هنا.
تقول هولت – لونستاد إنه جرى الآن توثيق تعزيز الصحة الاجتماعية في جميع أنحاء العالم، وذلك باستخدام طرق متعددة لقياس الروابط الاجتماعية بين الناس. سواء كنت تسأل عن مشاعر شخصية أو تفكر في حقائق موضوعية، مثل الحالة الاجتماعية لشخص ما، أو العدد الدقيق للمرات التي يرى الناس فيها معارفهم كل شهر، فإن النمط يظلّ كما هو. و يمكننا أن نلاحظ تأثيرات موازية في أنواع اجتماعية أخرى متنوعة مثل الدلافين، وقردة البابون، وقرود المكاك ريسوس: فكلما كان الفرد أكثر اندماجاً داخل مجموعته، زاد طول عمره.