ربما باتت عصية علينا محاولة حصر عدد الاختراعات التي كانت فكرتها الأساسية تدّعي مساعدة البشرية أول الأمر، ثم أصبحت من غير قصد مساحة واسعة للإيذاء والضرر، وأشهرها اختراع القنبلة النووية، فقد كانت فكرتها تسهّل على الإنسان الوصول للأشياء في باطن الأرض، لكنها أصبحت أداة للحروب والدمار.
توالت تلك الاختراعات ذات النية الحسنة والاستخدام السيئ، حتى وصل البشر إلى اختراع السجائر الإلكترونية “الفيب” (Vape)، وكان هدفها الأصلي تقليل تدخين الإنسان للسجائر العادية، حتى أصبحت مصدر خطر مرعب للصغار قبل الكبار، كما سهّلت تعاطي المخدرات أكثر، إلى جانب أشياء مؤذية أخرى.
كانت تلك هي المساحة التي انطلق في توثيقها مسلسل “سحابة السجائر الإلكترونية.. الصعود الحارق لشركة جول” (Big Vape: The Incendiary Rise of Juul)، ويتشكل من 4 حلقات متتالية من إنتاج منصة “نتفليكس”، وإخراج “آر جي كتلر”.
السجائر الإلكترونية.. اختراع جعل المنتج العادي سيئ السمعة
جاء قرار هذا المسلسل الوثائقي أساسا من تحويل كتاب يحمل العنوان نفسه، ويدور حول قصة صعود شركة “جول” للسجائر الإلكترونية، وكان بمثابة رسالة تحذير من خطر الطموح الجامح والتبعات غير المتوقعة لتسويق المنتجات لدى الفئة الخطأ من المستهلكين.
بشكل عام أصبحت المنتجات الترفيهية في حالة تبادل ربما لم يشهدها التاريخ من قبل، فعلى سبيل المثال دخلت صناعة الألعاب، وأصبحت مؤثرة في عالم الأفلام السينمائية الحديثة، كما اقتبست الوثائقيات عن عدد من الكتب لتحكي عنها بصريا، كما كانت تفعل الأفلام الخيالية مع الروايات العظيمة.
ومع عرض نسخة مقتبسة من الكتاب في مسلسل تلفزيوني، ساعد الأمر في انتشار ترجمة الحكاية المغرية لمختبرات شركة “جول”، التي صنعت سيجارة إلكترونية جيدة بما يكفي لجعل السجائر العادية قديمة غير مرغوبة، بل إنها أصبحت سيئة السمعة، بسبب إدمان عدد لا يحصى من المراهقين على النيكوتين.
“جول”.. شركة ناشئة تزاحم عمالقة صناعة الدخان
كانت بدايات شركة “جول” متواضعة، ثم تحولت من شركة ناشئة في وادي السيليكون، إلى إمبراطورية سجائر تبغ عملاقة، بلغت قيمتها السوقية في ذروة صعودها نحو 38 مليار دولار، وأصبحت منافسا شرسا لشركات التبغ العملاقة التي لم يستطع أحد منافستها على مدار عشرات السنوات منذ إنشائها، وذلك ما يجعل هذه الشركة محط أنظار الجميع.
بدأت الفكرة مع الطالبين “آدم بوين” و”جيمس مونسيس” عندما كانا يدرسان التصميم في جامعة ستانفورد، فقد فكرا بصناعة سيجارة إلكترونية يرون أنها لن تكون ضارة، بل ستساعد على الإقلاع عن تدخين السجائر العادية القابلة للاحتراق.
وحين ظهر تحوّل جذري في استخداماتها بعد ذلك، بدت القصة طريقة مثالية لاستكشاف العواقب غير المقصودة لشركات التكنولوجيا الكبرى في السنوات الماضية، وكان لدى الشابين طموح بسيط بتقديم منتج مبتكر وأنيق، لكنه تحول إلى وباء جديد، أصاب الشباب بالإدمان ومشاكل الرئة الصحية، بل إنه سهّل في بعض الأوقات تناول وتسخين الماريغوانا، وقد كان الشباب يجدون صعوبة ويحتاجون وقتا أطول في ذلك.
ثورة سحب البخار الزكية الرائحة.. أيام الازدهار
يسلط الوثائقي الضوء على أكثر من جانب، فمن ذلك التعرف أكثر على أسباب الانتشار المرعب، والتساؤل عن مدى وجاهة تناول الفيب عن السجائر العادية، والتعمق في فهم استراتيجية شركة “جول” التسويقية التي استهدفت ثقافة الشباب وإعلاناتها المثيرة، لكنها لم تستمر طويلا، فقد واجهت الشركة انتقادات شديدة، دفعت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية إلى سن لوائح وقوانين جديدة.
ولكي يدرك القارئ مدى الأهمية التي صنعها هذا الاختراع، يمكن أن نشير إلى وجود 4 آلاف موظف في “جول”، كانت الشركة تقوم على أكتافهم حينما كانت تقدّر في البورصة بحوالي 40 مليار دولار تقريبا، ثم انسحقت تلك الأرقام لأكثر من 90%، وهي تحاول العودة إلى ماضي ازدهارها بكل الطرق الممكنة.
وعندما بدأت شعبية شركة “جول” في الارتفاع، ولا سيما في عام 2016، كانت السيجارة الإلكترونية الأنيقة على شكل “يو إس بي” (USB) موجودة في كل مكان بدون استثناء، وسُحُب البخار التي تشم رائحتها الزكية في أغلب الأماكن التي تتردد عليها.
“منتج فاخر لا يشعر الناس بالحرج من استخدامه”
إذا كنت من جيل الألفية، ونشأت وسط التدخين السلبي في المنازل والمطاعم في الثمانينيات والتسعينيات، فربما لم يكن صعود هذا الاختراع مثيرا للقلق على كل حال، أو ربما أكثر إغراء من السجائر العادية ورائحتها الكريهة حتى لمن يدخنها.
يقول مؤلف الكتاب “جيمي دوشارم”: أراد “جيمس” و”آدم” أن يُنظر إلى شركة “جول” على أنها منتج فاخر ومتطور لا يشعر الناس بالحرج من استخدامه، على عكس بعض منتجات التدخين الإلكتروني التي كان يُنظر إليها على أنها غبية وغير رائعة.
وتبدو مفاجأةً اقتحامُ هذا الاختراع للسوق فجأة عن طريق مراهقين استطاعوا منافسة عمالقة الصناعة، وهي فكرة حالمة تساعد المدخنين على تقليل التدخين بوسيلة أخرى، بدلا من التوقف المفاجئ المعكّر للأمزجة، بل عن طريق استنشاق شيء شبيه أقل ضررا وأخف وطأة على الصدور، وقد نجح الكتاب والفيلم في اصطياد الفكرة ومحاولة البناء عليها.
إنقاذ العائلة.. منطلق حميمي دفع لصناعة “الفيب”
يبدأ المسلسل من التأكيد على القاعدة التكنولوجية الجوهرية التي اعتمد عليها عمالقة الصناعة حتى في فيسبوك وإكس (تويتر سابقا) وغيرهما، وهي “عدم خشية ارتكاب الأخطاء الصغيرة في سبيل النجاح الكبير”. وهكذا يدرك الأمر الشابان في الجامعة على لسان الملهم الأكبر لعوالم التكنولوجيا “بيل غيتس” أثناء حفل تخرجهم، وربما من هنا يبدأ هوسهم الجامح بالاختراع غير المدرك أزمته بالضبط.
يعتمد المسلسل أساسا على أفكار المؤسسين “جيمس مونسيس” و”آدم بوين”، ومع ذلك فقد رفضا المشاركة في التقصي المفتوح في المسلسل، وربما تبدو تلك نقطة الضعف الأولى في العمل، وهي العجز عن إقناعهما بالظهور للحديث عن تفاصيل ربما لا يعلمها الجمهور.
يعوّض ذلك نسبيا المساحة الحميمية التي كثيرا ما تظهر في المسلسل، وكانت الحميمية نقطة التفكير الأولى أو سبب اختراع الفيب، أي رغبة “جيمس” في تقليل التدخين الذي تسبب في دمار صحة عائلته، ولا سيما والده الذي مات مبكرا بسبب التدخين.
وقد كانت تلك الحميمية منطلقا جيدا للتعمق أكثر في قلب القصة المعقّدة، وفيما بعد سيبدو أي مستثمر قادم للمساعدة في تنفيذ الفكرة لديه أيضا نفس الدافع الحميمي.
رائحة محببة تغري جيل الشباب.. ثغرة شيطانية
كانت المساحة غير الأخلاقية التي يسعى المسلسل لمحاكمتها، تتجلى في كيفية رسم تصميم المنتج الجذاب، والتسويق المؤثر، واتخاذ القرارات المشكوك فيها في الشركات، إلى ارتفاع شعبية المنتج بين المستخدمين القصّر.
وقد انهارت الشركة الأم “جول” على أثر دعاوى قضائية بقيمة 3 مليارات دولار، بسبب أساليبها التسويقية المغرية للمراهقين، ثم حظر الجهاز نفسه مؤقتا من قبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، مع أن هذا القرار قيد المراجعة الآن.
يظل العمل موضع أهمية عربية، ربما تزيد عن القدر الذي يجعله في أمريكا وغيرها، نتيجة انتشاره الهائل عربيا بين الشباب الأصغر سنا.
وحين يتحدث المسلسل عن إغراء “الفيب” يركّز على فكرة انتشاره لأسباب، من بينها رائحته الجميلة المستخلصة من الفواكه والأشياء التي يحبها الإنسان، وتلك ثغرة شيطانية لعب عليها الاختراع، فاستبدل الرائحة الكريهة في دخان السجائر العادية برائحة فواكه معتادة ومحببة للمدخن وغيره، لتجعل تجربته غير مزعجة بشكل عام.
“آيفون السجائر الإلكترونية”.. حل مشكلة النيكوتين بالتكنولوجيا
السؤال المحوري الذي يطرح نفسه حول هذا الاختراع التكنولوجي الساحر هو: هل يمكن فصل المواد الضارة في السيجارة مع الاحتفاظ بالفعل المحبب ذاته في التدخين نفسه؟ هل يمكن العمل على اختراع يسخّن التبغ ولا يحرقه، فيصبح أقل ضررا للمدخن؟
أثبتت التجربة أن النتيجة النهائية أصعب مما توقع الصنّاع، وقد افترض الكتاب والمسلسل أن المؤسسين ارتكبا خطأ فادحا في الحكم حين تعاملا مع النيكوتين على أنه مشكلة يمكن حلها بالتكنولوجيا، بدلا من مبادرات الصحة العامة، والنصح المعتاد بالتوقف عن التدخين عموما، وهي نصيحة سخرا منها في بداية الأمر.
وفي وقت مبكر، أطلق على شركة “جول” اسم “آيفون السجائر الإلكترونية” في مراجعة سلكية أجراها الصحفي “ديفيد بيرس”، وذلك ارتباط ظل عالقا، نظرا لتصميمه البسيط وجاذبيته المغناطيسية.
“نبدو فئران تجارب لها”.. صناعة غامضة التأثير
بعد أعوام قليلة من صناعتها تقع “جول” الناشئة في استثمار، فيستحوذ عليها عملاق السجائر العادية، فتصبح واحدة منهم، وربما لا تمثّل أي خطورة عليهم البتة، بل تتجاوزهم لتصبح مصدر إغراء لمدخني المخدرات، لا السجائر فقط.
في النهاية، يدور المسلسل في فلك ممل نوعا ما، فلا يقدّم وعده كاملا للمشاهد الذي ينتظر الأسرار كلها، ومع ذلك فقد بدا أكثر قربا من حكايات صناعة السجائر الإلكترونية الغامضة جدا مع شهرتها الطاغية، وثمة مساحة بصرية مكثّفة لخلق تخوّفات وأسئلة حول استنشاق منتج لم يفهم البشر مدى تأثيره المباشر وغير المباشر.
ذات مرة قال لي صديقي، وهو أحد المستخدمين العرب لـ”الفيب”: ما يرعبني في السجائر الإلكترونية أننا لم نفهم بعد مدى تأثيرها علينا، لأننا -نحن المستخدمين الأوائل- نبدو بمثابة فئران تجارب لها. وربما كان ذلك الوصف الأدق لهذا الاختراع المغري الذي لم نكتشف خطورته الحقيقية بعد.